استوقفتني سرعة الكشف عن الخلايا الأخيرة بالإضافة لموضوع انتشار اللامبالاة حيال غياب تدخل السلطة لحماية هذه الخلايا، حتى لا اقول التسليم الجمعي بتورطها في سرعة الاكتشاف هذه. سأتحدث عن الموضوعين عبر ما اسميه هنا كاميرا الشارع وكاميرا الرأس.
يتعلق الموضوع الأول بعملية انتشار الكاميرات في الشوارع الفلسطينية، على مداخل الأبنية الرسمية، أمام المحلات الخاصة، داخل القلاع والمربعات الأمنية، أمام البنوك وعلى جوانب الصرافات الآلية. باختصار هو انتشار شامل بحيث صار من المستحيل المرور في شارع دون أن يكون مثل هذا العبور داخل عملية التوثيق والتصوير والمراقبة.
هذا الانتشار ليس وليد صدفة ولا يتعلق بتطور تكنولوجي بمعزل عن ايديولوجية الخطاب المهيمن، يعود رسم هذه الايدلوجية لفترة ما بعد الانتفاضة الثانية والتي تم مأسستها من خلال الراحل سلام فياض، ففي ظل حكومات هذا الأخير ومع بدء ولاية الرئيس الحالي، انتشر خطاب الأمن ضد حالة الانفلات، كان المقصود بالانفلات والمجموعات الخارجة عن القانون حينها هو ما تبقى من خلايا مقاومة تشكلت خلال الانتفاضة الثانية، في هذا الخطاب تمت عملية فردنة موضوع الأمن وخصصته.
على صعيد الفردنة ظهر ما يسمى باتفاقية "العفو"، اتفاق سياسي عمل على إجبار من قاوم يوما ما بالتوقيع على التزام خطي بخيانة فكرته التي قاوم من أجلها، والتخلي عن إيمانه بأي وطن خارج السياسة الرسمية، من هذه المجموعة، هنالك من عاش اغتراب الحالة واختفى عن المشهد السياسي، وربما حتى قرر الرحيل وبشكل نهائي عن البلد، أما المجموعة الأخرى فتعايشت مع خيانتها للفكرة من أجل العيش واستكثرت الموت على من يريد الوفاء لإيمانه.
على صعيد الخصخصة، اقتصر الأمن على الموضوع الملكية الخاصة، بعيدا عن الحاجز الذي يستبيح كل ما هو عام، نتاج فكرة هذه الخصخصة ما نستطيع تسميته بالسفاح النيوليبرالي، هو تلاقي ضابط أمن فلسطيني سابق يمثل ما تم تسميته القطاع الخاص بضابط موساد يمثل قطاعا خاصا في الطرف المقابل يعمل كلاهما لصالح رأس مال جناه السياسي الفلسطيني عبر خيانته للفكرة، باختصار، هو رأس المال الذي أنتج باسم السياسة الوطنية اوسلو وقام بتوريط المناضل القديم باتفاق "عفو" دون الحاجة لأي توقيع، وبانتشار مفهوم الأمن الخاص هذا أمام ما تم تسميته بالخارجين عن القانون وحماة الانفلات الأمني، وُلدت شركة أمنية استثمر فيها من يتربع على سدة السلطة السياسية، انتشرت بعدها كاميرات المراقبة، وكونها هي والبرامج المحوسبة لا تُصنع في الخليل، كان الاعتماد في هذه التقنية على تدريبات هناك، وغرف عمليات أيضا وجدت بالصدفة هناك.
انتشرت الكاميرات حتى ربما داخل حمامات بعض مبان المربعات الأمنية، جزء منها لها حساسيات مرتفعة، تستطيع كشف ما يمكن تعريفه بحركات مشبوهة، كأن يسير أحدهم في ممر داخل مبنى الرئاسة بعكس الاتجاه السائد، أو يحمل سلاحا غير متعارف عليه في هذا الموقع، باختصار ما يراه الفلسطيني قلاعا شاهقة لا يعلم ما يدور فيها هنا، يرى تفاصيلها وبشكل مباشر على الشاشة متدرب أو موظف مبتدئ هناك.
يكاد يتسلى أحيانا بعمل جدول يظهر فيه تباين وتثاقل حركة القائد فلان مع تفاوت الأيام، وربما يرسم أحيانا الفرق بين تقاسيم وجه القائد المغوار وهو ذاهب للغيط وابتسامته وهو يشرب القهوة.
راجت فكرة الشركة، وارتبطت عضويا بمجموعة الشركات التي تكاثرت بفعل السفاح النيوليبرالي هذا الذي تجاوز كل فكرة الوطن، فصارت شركات الاتصالات، أبراجها تحتاج لكاميرات مراقبة، اختلف شركاء السفاح على موضوع شركة هنا وأخرى هناك، فولدت شركة أمنية أخرى باشرت عملها بتأمين مؤتمر فتح في بيت لحم، سياراتها تابعة لأمن الرئاسة، أما ملكيتها فتابعة لورثة الله على الأرض، صارت الكاميرا بفعل الخطاب السياسي للسفاح النيوليبرالي هذا إشارة مرور لعبور المدينة.
يسأل البعض ولكن ما حاجة الجيش بتسجيلات المحلات الخاصة؟، أعتقد أنه بإمكان المتدرب هناك الدخول ومشاهدة ما تسجله الكاميرات مباشرة، ولكن يحتاج إلى الكثير من الوقت والكثير من المساحة لحفظ كل ما يتم تسجيله، لهذا يقتحم الجيش المحلات لمصادرة تسجيلاتها، نعيش الآن في مجتمع يستطيع فيه ذلك المتدرب ضبط إيقاع "ظراطنا"، فكيف لشاب بعمر الورد أن يفكر في تهريب السلاح بعيدا عن عيون العسس ويحسب نتائج كل هذا الهوان في آن واحد؟.
بهذه النقطة أردت فقط القول إن انتشار موضوع الكاميرات مرتبط ببنية اوسلو التي تجددت بعد الانتفاضة الثانية عبر سفاح نيوليبرالي وقرار "عفو" ومجتمع استهلاك يجني ثماره ما يسمى بالقطاع الخاص، لا أقصد بائع الفلافل بل هذا القطاع الذي مولته الولايات المتحدة، وأضحى يشارك في التنسيق الأمني على طريقته، بينما يجني سياسي ثماره دولارات نتيجة لإقصائه فكرة بسيطة اسمها: وطن.
النقطة الثانية التي وددت الحديث عنها تتعلق بهذا الحجم من اللامبالاة وما أسمية كاميرا الرأس، كيف صار عاديا أن يتم اغتيال الشاب تلو الآخر أمام أعيننا هكذا في وضح النهار وفي قلب مددنا؟، كان البعض يتحجج أن قوى الأمن لم تتدخل كون الجيش اقتحم المدن مباغتة في الليل وأنهى مهمته قبل أن يصحو رقيب المدينة وحارس أحلامنا، ولكن ماذا عن عملية تستمر ساعات وربما أيام، يتخللها تعليقات مسؤول على الهواء مباشرة بينما تبقى أجهزة الأمن بعيدة تراقب.
فكرتي ليست في عدم تدخلها، ولا في موضوع على أمن من تعمل، بعدما خصص لها ما يقارب نصف ما نتلقاه من معونات بدل الكرامة، بل ببساطة في ابتذال فكرة استحالة تدخلها والتوقف حتى عن التذمر من سلوكها، كيف صار لكل منا كاميرا في رأسه تمنعه حتى من التفكير أن مثل هذه الأجهزة ستعمل يوما على حمياته وكيف صار عاديا تقبل وجودها، بل وأكثر من ذلك كيف ما زال هناك من يريد منعنا حتى من نقد سلوكها؟. جنين بالأمس وبيرزيت قبلها، وغزة التي صارت مسلسلا للفرجة بفضل "البحبحة" في موضوع الكهرباء، كلها شواهد على استداخلنا للهزيمة، تجسيدنا لها حتى صرنا جثثا تسير باسم المشروع الوطني.
ما حصل قبل أيام أظهر تماما مدى جدية قرارات المركزي، انكشاف هذه الجدية لم تكن فقط للفلسطيني الذي لم يأبه حتى بانعقاد الاجتماع، بل حتى للأطراف التي حاول المجلس توجيه الرسائل و"التهديدات"، لا سمح الله، لها. كيف تريدون أن يحترمكم العالم وأنتم أول من أستخف بالمؤسسات الوطنية والاجتماعات والقرارات المنبثقة عنها؟.
أخيرا، على المستوى الشخصي، لم أعد أحتمل فكرة فراق ذلك الشاب المبتسم، حين قرر الرحيل من أجل أن يحيا وطن استعمرته جثث الحركة الوطنية.