شبكة قدس الإخبارية

بين استقطاب المستعمِر وتبعية المستعمَر في الإعلام

ياسمين مسودة

في ثنائية المستعمِر والمستعمَر:

بالانطلاق بتحديد الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بأنه صراع استعماري استيطاني إحلالي، أي تظهر السيادة الاستعمارية بكل جوانبها في كل أجهزة ومؤسسات الدولة التي تم استعمارها لصالح المستعمِر، ولمّا كانت المؤسسة الإعلامية من أهم الأجهزة الاجتماعية والسياسية في الدولة فلا بد من الحديث في هذا السياق عن تبعية الإعلام الفلسطيني للإعلام الإسرائيلي أو استقطاب الإعلام المتصهين للإعلام الفلسطيني سواء كان ذلك قسرًا أو طوعًا.

يلعب الإعلام دورًا بارزًا ومحوريًا في تسليط الضوء على أية قضية وبلورتها وإنتاجها وتحرريها وصياغتها على شاكلة المؤسسة الداعمة لتلك المنصة الضخمة التي تتيح لتلك المؤسسات الإعلامية التأثير على عقول الشعوب سواء كانت قضية عابرة أم راسخة كالقضية الفلسطينية.

لا يمكننا التغاضي أثناء حديثنا عن وسائل الإعلام الإسرائيليّة والعلاقة معنا نحن الفلسطينيين، عن كون هذه الوسائل تُمارس بحقّنا قمعًا إعلاميًا مستمرًا. وباعتبار وسائل الإعلام في العصر الحديث "سلطة رابعة" كتعبير على مدى قدرتها في التأثير وصياغة الوعي وتشكيل رأي عام وتوجيهه، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية تلعب هذا الدور فيما يتعلق بالعرب والفلسطينيين كسلطة قامعة، إذ تُمارس قمعًا على الفلسطينيين بأشكالٍ مختلفةٍ خلال تناولها وتغطيتها الإعلاميّة. وهذا يبدأ من أبسط الأمور مثل عنوان الخبر والصورة المرفقة وترتيب الأخبار وإبرازها ومن عدمه، وعمليّة الفلترة خلال الإعداد، ناهيك عن الأمور الكبرى كالنظرة الاستشراقيّة الأشكنازيّة واعتماد الإعلام الإسرائيلي على الرواية العسكريّة وارتباطه بالمؤسسة العسكريّة.

دخلت القضية الفلسطينية هذا المعترك الإعلامي منذ زمن بعيد ما عرضها وما زال يعرضها لخطر تشويه الحقائق والتعتيم الإعلامي، فيجد الإعلام الفلسطيني نفسه اليوم أمام اختبار في قدرته على تغطية الأحداث التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، التي تتسارع وتيرتها، وفي ظل فقدانه مصادر المعلومات في الأحداث الساخنة، التي يقع معظمها في أماكن يسطر عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولا تتوفر غير مصادر إسرائيلية لتقدم الرواية دون وجود طرف آخر محايد، كما حصل في "تصفية" فلسطينيين ادعت حكومة الاحتلال أنهم حاولوا طعن جنودها أو مواطنيها، فيما يشكك الفلسطينيون بهذه الرواية.

هذا التعتيم الإعلامي وغياب مصادر أخرى جعل بعض وسائل الإعلام الفلسطينية تتبنى الرواية الإسرائيلية، وتكمن الإشكالية في كون هذا الإعلام الإسرائيلي في الواقع يخدم رواية المستعمِر، فمن ينشر الأخبار ويقدمها هم جنود سابقون ولهم علاقة بجيش الاحتلال بشكل مباشر، وبالتالي فإن هذا الإعلام ليس إعلامًا مهنيًا وإنما إعلام يخدم المستعمِر ومصطلحاته، ويطمس الهوية الفلسطينية ويشرعن القتل.

في محاولة الاستقطاب والتبعية: ظهر اهتمام قادة المنظمة الصهيونية العالمية والآباء المؤسسين للصهيونية منذ لحظة تأسيسها بالإعلام، للترويج للأفكار الصهيونية والاستيلاء على فلسطين والدعوة للهجرة إليها. إذ صرح هرتزل (مؤسس الحركة الصهيونية) في افتتاحية العدد الأول من أسبوعية الحركة الصهيونية "دي وولت"، بتاريخ 361897: "يجب على هذه الصحيفة أن تكون درعًا للشعب اليهودي، وسلاحًا ضد أعداء الشعب". كما أعرب بن غوريون (أول رئيس لدولة إسرائيل) بأن وظيفة الإعلام هي الدفاع عن المشروع الصهيوني وأكد على أهمية الحذر والموازنة في الأقوال وعدم إعطاء العدو معلومات أو زرع الفتنة والفوضى في أوساط الشعب اليهودي.

نشطت خلال تلك الفترة "إذاعة إسرائيل"، وأربعة عشر صحيفة صهيونية منها أربع صحف ناطقة بالعربية، وموجهة للفلسطينيين والغرب لتخدم أغراضًا صهيونية؛ ومن أشهر هذه الصحف (صحيفة هآرتس ويديعوت أحرونوت ومعاريف ودافار؛ أما الصحف الناطقة بالعربية فهي: بريد السلام، وصحيفة السلام، وإتحاد العمال).

يستخدم الإعلام الإسرائيلي مصطلحات انتقائية محددةٍ، مثل رئيس السلطة الفلسطينية بدلاً من الرئيس الفلسطيني، وجيش الدفاع بدلاً من الجيش الإسرائيلي، ومناطق الحكم الذاتي ويهودا والسامرة مقابل الضفة وأورشليم القدس بدلاً من القدس، وحائط المبكى بدل حائط البراق، وجبل الهيكل في إشارة إلى الأقصى، وإضافة إلى قنابل موقوتة ومطاردين ومخربين في وصف المقاتلين والمجاهدين الفدائيين، ومواطنين في وصف المستوطنين، كما يستخدمون تعبيرات كالجدار الأمني في تبرير جدار الفصل العنصري، وأحياء وبلدات لتبرير المستوطنات، والإدارة المدنية، بدلاً من سلطات الاحتلال، والإحباط بدلاً من القتل، والإغلاق بدلاً من منع حرية الحركة، وهذا كله من ضمن مئات المصطلحات المختارة بعناية بهدف تحريضي تجاه الفلسطينيين.

هذا الإعلام الذي نشط في استقطاب الإعلام الفلسطيني وعمل بشكل دؤوب لصنع الشائعات لبث الرعب في نفوس الفلسطينيين، قد نجح إلى حد ما في أن يصبح أحد أهم ركائز التحليل الإخبارية لدى المحلل الفلسطيني، فإذا ما أراد أحد المحلليين التأكد من صحة خبر فإنه يعود إلى الصحف العبرية / إلى صحف المستعمِر كمصدر أول للخبر والمعلومة، بالتوازي مع عدم قدرة الإعلام الفلسطيني للوصول إلى مصادر المعلومات الصحيحة، فقوات الاحتلال تعيق حركة الصحفيين وتستهدفهم، وهناك اعتداءات واعتقالات بشكل مستمر على الطواقم الصحفية، فينقل بعض المحللين المصطلحات من الإعلام الإسرائيلي كما هي دون مراعاة لتأثير هذه المصطلحات على وعي الشارع الفلسطيني على المدى البعيد.

إحدى أهم الإشكاليات التي يواجهها الإعلام الفلسطيني تكمن في كيفية نقل الأخبار نفسها من الصحف العبرية، إذ لا يتم التأكد من الخبر كما حدث فعلاً بل يتم أخذه كما نشرته الصحف العبرية، فبمجرد صدور خبر جديد في صحيفة مثل هآرتس تتسابق وسائل الإعلام الفلسطينية لترجمته ونقله، بغض النظر هل هذا الخبر صحيح وأكيد أو حتى هل هذا الخبر يخدم مصلحته الفلسطيني المتلقي لهذا الخبر أم هو مجرد خبر يهدف إلى نشر الإشاعات وإرهاب الشارع الفلسطيني؟ أو هل هنالك إمكانية للحصول على نفس الخبر بمصداقية أكبر من مصدر فلسطيني؟ ومثال على ذلك إذا صدر قرار في قضية مثل قضية جثامين الشهداء فإن الإعلام الفلسطيني سينقل الخبر من خلال الصحف العبرية بدلاً من العودة إلى المحامين في هذه القضايا أو الرجوع إلى أهالي الشهداء.

إضافة إلى عرقلة حركة الصحفيين في بعض الأحيان يعود السبب للنقل من الصحف العبرية إلى تقاعص بعض الصحافيين واستسهال نقل الخبر من الصحف الإسرائيلية بدون التأكد من وقائع الخبر. ومثال آخر على عدم تحري الدقة في نقل المعلومات متابعة قضية الفساد الخاصة برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بدون الخوض بأبعاد وتفصيلات هذه التحقيقات فتظهر إسرائيل وكأنها دولة ديمقراطية تحارب الفساد حتى مع المسؤولين.

إضافة إلى إشكالية التحليلات الإسرائيلية والاعتماد عليها كمصدر أولي وأساسي للتحليل، إذ يتم اعتمادها وكأنها لا تخطىء وخصوصًا إذا كانت هذه التحليلات تتحدث عن عظمتنا كفلسطينيين، فتتسابق قنوات الإعلام الفلسطيني بنقل هذه التحليلات وكأننا لا نشعر بعظمتنا إلا إذا تم التطرق إليها في إعلام المستعمِر. وكمثال على ذلك في أحداث الحراك الأخير في تموز الماضي الذي سيطر فيه المقدسيون على المدينة بالاحتجاج على نصب البوابات الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى، ما إن كتب نير حسون مراسل هآرتس أن المقدسيون يسيطرون على المدينة حتى بدأت حملة ترجمات واسعة إلى الإعلام الفلسطيني للحديث عن هذا الإنجاز. فهناك احتفاء مبالغ فيه في ترجمة مواد إعلامية إسرائيلية وخصوصُا إذا كتبت من قبل كتاب يساريون يدعون أنهم يشعرون بالأسى على حقوق الشعب الفلسطيني متناسين أنها تحليلات تخدم في الأول والأخير مصلحة المستعمِر دون أن يشعر بذلك.

البدائل والحلول: إن قضية الاعتماد على المصادر الإسرائيلية تحتاج إلى مهنية عالية ومهارة ووعي في النتائج وما يترتب عليها، وهذا يتطلب إعداد كادر صحافي محترف ولديه مهارة عالية في النقل والكتابة والتعامل مع الأخبار. فالإعلام الفلسطيني في الغالب ينشر كل ما ينشر في الإعلام الإسرائيلي في ما يتعلق بالجانب الفلسطيني، الصحفي قد يحصل على جميع المعلومات من الإعلام الإسرائيلي ولكن المهم هو ما يختاره من هذه المعلومات لنشرها في الإعلام. فعليه نشر ما يهم المواطن الفلسطيني أولاً، وما له تأثيرات إيجابية على الشعب، وتجنب ما قد يؤدي إلي تحطيم معنويات المواطن الفلسطيني.

أعتقد أن أي مواجهة لمحاولات الاستقطاب يكون من خلال مواجهة القمع من خلال تعرية إعلام المستعمِر وتبيان تناقضه وتحويل الأسئلة والهجوم على الإعلام الفلسطيني بشكل معاكس بحجج عقلانيّة بهدف فرض حضور الرواية الفلسطينيّة كما نرويها نحن الفلسطينيون بنديّة تجابه محاولات طمس الرواية الفلسطينية من قبل إعلام المستعمِر. والعمل الحقيقي لتأسيس معجم مصطلحات جامع للإعلام الفلسطيني يتم تداوله في أوساط الإعلام الفلسطينية ليكون لبنة الأساس لبناء رواية فلسطينية واحدة جامعة.