لا يمكنك أن تجد فلسطينيًّا أدرك الانتفاضة الأولى، ولو ذيلها، إلا وأصابته رعشة إن مرّت بخاطره، أو غاب عنك مسلوبًا لو رأى مشهدًا من يوميّاتها، أو أخذته الدهشة حتى الفناء لو استمع إلى مقطع من أغنياتها، ولا يمكن لكاتب هذه السطور، وقد تفتح وعيه في بواكيرها، حتى لم يخرج منها إلى اليوم، وأدرك أحسن الإدراك ذيولها وهو غلام، لا يمكن له، والحال هذه، أن يزيد على فاتحة هذه المقالة، سوى بأنّها السحر خالص الحلّ، الوجع كامل العذوبة، البلاد الجديرة بالعشق المجرّد، الشعب فائض العنفوان!
هل يمكنك أن تتخيل إنسانًا يحنّ إلى حرقة الغاز الخانق في أنفه وعينيه، وهو يراوغ الجنود المدججين في أزقة المخيم، وشوارع المدينة الصغيرة، يجري مغلق العينين، يبحث عن بصل أو عطر يطرد به ما استطاع من حقد غاز الغزاة؟ أو تستعذب ذاكرته مغامرة -تبدو للبعيدين ساذجة- وهو يكمن لسيارة مستوطن على طريق سريع يمطرها بالحجارة، متحسّبًا لرصاصة تمزّق لحمه، من مستوطن آخر، أو جنديّ مباغت؟ أو ينظر اليوم لعلم بلاده نظرة محيرة للبعيدين، مفهومة للقريبين، بينما يرفرف، في قلبه، من زمن البراءة الثورية علم حاكته نسوة الحيّ، يحمله متخفيًّا، كممسك بقنبلة اليوم، مُلثّمًا، فخورًا، مخاطرًا، يتسلّق عمود الكهرباء، ويشمخ به في علوّه، متلفّتًا خشية من رصاصة متسللة، أو كتيبة من المدججين بالغدر واللؤم تزحف إليه؟ ذلك الذي أدرك الانتفاضة الأولى، واغتسل بيومياتها، وهام بأغانيها، وتثقّف بمخطوطات جدرانها، ووجد نفسه صانع قرار، وسياسات، وهو يوزّع بياناتها.
بعد توقيع اتفاق أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية، سمّى الفلسطينيون السنوات التي فصلت بين الانتفاضتين "السنوات العجاف"، وكان يبدو لمدركي الانتفاضة الأولى، أن أجمل أحلامهم التي عاشوها واقعًا، قد ذابت في قبضة السلطة، وانطحنت في جوف السياسات الأمنية والاقتصادية والثقافية التي فرضتها السلطة.. جمال الفلسطينيين، خبرتهم النضالية، حميميتهم الثورية، تتهاوى.
ثم إنّك لا تدري بعد ذلك، وقد كبر هذا الجيل، وظنّ ألا خلف له، وأن وقائع السلطة لا يمكن أن يزهر فيها جيل يحمل تلك الخبرة، ويركض صوب الرصاصة، ويمحض البلاد عشقه المجرّد عن الغرض سوى الفناء الفعلي فيها، إنك لا تدري، كيف أزهرت في هذا الجيل نفسه أرواحهم من جديد، فارتدوا شبابهم مجدّدًا، وتزنّروا بخبرة سنوات السحر الخالص، حتى حملوا الانتفاضة الثانية على أكتافهم، وفي ظلّهم صبية يتبرعمون، اشتدت سواعدهم أول الأمر على الحجارة، تعلّموا الرمي بها، ثم أخذوا البنادق بأكفهم، وتمنطقوا بأرواحهم ولحمهم الحي، يدفعون الغزاة، بالرعب والبطولة والفناء في البلاد.
كيف ارتدّت الروح إلى شبابها؟ ومن أين تبرعم الصبية؟ من ألقى البذرة؟ إنّك لا تدري، سوى أنّ هذا الشعب مفطور على الكفاح، يُلقن أطفاله في أرحام أمهاتهم الكلمة، والحجر، والبندقية.. ثم إنّك لن تعجب إذا علمت أنّ القدس، ودرّتها المسجد الأقصى، قد أطلقت هذا الشعب من جديد من كنانتها، رمية لا تخيب.
أمّا وقد وضعت الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، عنفوانها، وقد راكمت أنفالها ورجالها في غزّة، يخوضون حربًا تلو أخرى، فإنّ بقاياها في الضفة الغربية طووا على أحزانهم، كذلك الحزن المبلول بالدمع مفعم الحسرة يحرق العينين ويملأ الصدر، كذلك الحزن الذي أصاب بقايا الانتفاضة الأولى قبل الانتفاضة الثانية.
يتجدد الإحساس بانطماس المعنى، وضياع الهدف، وعدمية الوجود، وسرقة الحلم، وانمساخ الناس.. النّاس الذين صُبّ عليهم المسخ صبًّا، وأحيطوا من كل جانب بسلخ جلودهم وامتصاص ألوانهم وصولاً إلى أرواحهم لسحقها، لقد كانت المحنة أشدّ، والتغيّر أعمق، والظروف أقسى، وصارت أحوال السلطة، ووقائع حملة السور الواقي، وعمليات التحوير الموغلة في الأرض، لا أشدّ بطشًا في أرواح الناس فحسب، وإنما أبلغ إعاقة لممكناتهم الكفاحية أيضًا.. أوفر في المعيقات عظيمة الهول عددًا وحجمًا!
لا يبزغ الحلم مرّة واحدة من قلب وقائع كهذه، لكنك كنت تسمع دبيبهم، منذ العام 2014، هبّة تلو أخرى، تولد البلاد من جديد في أكفّهم، وكأنّها تستعجلهم، وهم يتلمّسون طريقهم بكل وسيلة، ينتصبون للمستحيل، للأحوال المقيِّدة، للوقائع الحائِلة، لعمليات التحوير المُعجِّزة، يحاولون، حتّى إذا كانت هبّة القدس في تشرين 2015، وجدتهم، مرّة واحدة ينغمسون في البلاد التي يحملونها في أكفّهم، يعبرون بها إلى أرواحهم، أكثر عجلة منها، وكأنّهم لا يرغبون في ادّخار أحد منهم، كجحفل متكتّل يدكّون بأجسادهم باب قلعة، يشربون النبال، يُطفئون بأجسادهم الزيوت الحارقة، كجسر يعبروه المقاتلون إلى حافّة الحلم، كسلم بشريّ يتسوّر به المقاتلون جبروت القلعة!
حتى إذا استهلكهم باب القلعة، وتخلّف عنهم المقاتلون الذين من خلفهم، بدوا وكأنّهم ذابوا من جديد، في قبضة العجز والخذلان وصلابة الوقائع واستحالة الظروف.. لكنك لن تلبث طويلاً حتى تراهم يزهرون من جديد، في أكفّهم البلاد، ينغمسون فيها، وفي قلوبهم تدبّ فطرة الكلمة والحجر والرصاصة، سهمًا واحدًا تطلقه القدس من كنانتها.. إّنهم بلحمهم الحيّ، بمجرد الحلم والإرادة، يدكّون بأجسادهم منذ ثلاث سنوات الباب الذي صبّته الدولة المدججة، والوقائع التي كبّلتهم بها السلطة التي يختنقون بها.. وتلك حكاية لا يمكن أن تموت.. حكاية الشعب الذي يتجدد في المدينة التي لا تفنى، وبالمدينة التي لا تفنى.