شاي على الحطب، وقلاية بندورة، مقلوبة على النار وجمعة العائلة تحت ظلال زيتونة، "كليشيه" معتادة تتردد على مسامعنا مع خريف كل عام وأواخر أيام الصيف، طقوس ارتبطت بموسم الزيتون ولكن هل تراها اختزلت كل جوانب الصورة. أم أن هذه الرموز وحدها التي تشد الشباب الفلسطيني لهذا الموسم متناسيًا ما يصحبه من تعب وجهد ووقت.
لطالما كان موسم الزيتون أشبه بعيد خاص بالإنسان الفلسطيني، له أجواؤه ومراسمه الخاصة، لا يتخلف الصغير عنه قبل الكبير، لكن هل تراها حافظت على قدسيتها وأولويتها في السنوات القليلة الأخيرة أم أصبحت عرضة للاندثار؟
في كل مرة يذكر فيها شجر الزيتون لا يغيب عن بال كل فلسطيني أو ربما عربي صورة الحاجة الفلسطينية محفوظة اشتية من قرية سالم التي احتضننت جذع شجرة الزيتون التي هم المستوطنون باقتلاعها بحراسة جيش الاحتلال، وراجت صورها آنذاك في كل وسائل الاعلام والمحافل العالمية.
هذه الصورة التي وثقت حالة جيل فسلطيني كامل أثبت مراراً من خلال انتفاضتين والعديد من الاحداث والصراعات التي عاشها مع الاحتلال استماتته بالدفاع عن أرضه واستعداده التام لبذل الروح والدم فداءً لشجرة الزيتون، يدفعنا ذلك للتساؤل ما إذا كان السبب في ذلك الارتباط الوثيق بالأرض هو العمل بها والتحام الروح مع التراب ؟
موسم بركة كان موسم الزيتون يعني للفلسطيني البركة في كل شيء وعلى عدة أصعدة بدءًا من البركة المعنوية المتمثلة بالمتعة وصناعة الذكريات الجميلة والرحلات خصوصاً لمن يقطعون مسافات طويلة للوصول لأراضيهم، وصولا إلى البركة المادية فبهذا الموسم أيضاً يجمع الفلسطيني زيته الذي هو عماد بيته والجفت والحطب الذي سيلزمه لاستقبال الشتاء المقبل، على الأبواب، ثم يبيع الفائض عن حاجته فيضمن بذلك المال والمؤونة. ومع التطور الذي طال كل شيء في حياتنا يأتي موسم الزيتون كإحدى الأشياء القليلة المتبقية من الماضي الحميم والتي من شأنها أن تذكرنا بأرضنا وجذورنا الضاربة بعمق هذه الأرض، كما أنه الفرصة الوحيدة خلال العام لمعظم فئات الشعب الفلسطيني لزيارة أراضيهم وأراضي أجدادهم حتى الفلاحين منهم كما ذكر الشاب مجد اشتية ووصف شجرة الزيتون بأنها تمثل الانسان الفلسطيني "فهي ثابتة، قوية، أوراقها دائمة الخضرة، لا تتساقط رغم جفاء الناس لها، وإهمالهم لها طوال العام، تبقى معطاءة لا تبخل بشيء من زيتها الصافي والذي هو دواء كل علة". ما بين الأمس واليوم فقه الأولويات ينطبق على حالنا مع هذا الموسم أيضاً، فعند هذا الجيل الجديد اللطيف الظريف ذو المقاييس العالمية كما يقول شريعتي، نلاحظ تراجع اهتمام الفلسطيني بهذا الموسم وتأخره في سلم أولوياته، فاليوم ما عادت الفلاحة وإنتاجها يتساوى مع كمية استهلاك الفرد، لعدة عوامل اقتصادية وسياسية وجغرافية أيضًا قد لا يتسع المجال لذكرها هنا. في السابق كان ما إن يقبل موسم الزيتون "اشتعلت الهمم، وملأتنا الحماسة".ولكن ليس بعد اليوم، فصاحب الوظيفة تمسك بها وطالب الجامعة يقضي ثلاثة أرباع يومه في الجامعة والربع الأخير في الدراسة، حيث لا متسع للأرض والفلاحة إلا في نهاية الأسبوع، يطرد اشتية قائلاً "كنا منذ سنين قليلة، إذا كنا على أبواب موسم الزيتون اشتعلت هممنا وملأتنا الحماسة وكان يشارك في قطف الزيتون كل الناس بجميع فئاتهم العمرية منذ ساعات الصباح الأولى وحتى غروب الشمس دون كلل أو ملل، كان ذلك يخلق شعوراً رائعا حماسياً ومسلياً في الوقت ذاته، أجواء نادرة الوجود اليوم!"
السيدة نادية ملحم من بلدة عنبتا قضاء طولكرم ترجع سبب تراجع اهتمام الفلسطيني بموسم الزيتون لصغر مساحات الأراضي وضياع الكثير منها في التوسع العمراني والتمسك بالوظائف ونقص الأيدي العاملة وتوجه الشباب للعمل داخل الخط الأخضر بحثاً عن الأجور الأعلى، وبالتالي أهملت الأراضي وأصبحت بور! ولكنها ترى صحوة زراعية في السنتين الأخيرتين حيث لوحظ اهتمام عدد من الشباب العاطلين عن العمل بفلاحة هذه الأراضي وزراعتها من جديد.
وخلاصة القول إن موسم الزيتون أصبح يشكل عبئاً ثقيلاً في بعض الأحيان على الشباب وعلى العائلات بشكل عام، ذلك لأن الأولوية في حياة الشباب اليوم تكون للدراسة والوظيفية وغيرها من المجالات التي يصبون جل اهتمامهم عليها، أما عن العائلات فبعد أن فقد موسم الزيتون اجوائه وتجرد من روحه وأصبح مجرد عمل لجني المال واعتقاد البعض بأن المنتوج من قطف الزيتون لا يستحق الجهد المبذول لأجله توجهوا لاستئجار عمال لإنهاء أعمال القطف، غير أن اشتيه يرى في ذلك أمراً إيجابياً ذلك لأنه يتيح لأصحاب الأراضي ممارسة واجباتهم اليومية دون انقطاع وفي الوقت نفسه يوفر فرص عمل للكثير من الشباب العاطل عن العمل فتعينهم على توفير دخل موسمي سواء بتوفير حصة من الزيت لهم أو مقابل مبلغ مادي، ففي ذلك منفعة للطرفين.فنجد أن المجتمع الفلسطيني كغيره من المجتمعات خاضع لقانون الطبيعة في التحوّل وآخذٌ في الانجراف نحو الاستهلاك ويسعى للحصول على أقصى درجات الترفيه مبتعداً عن كل ما قد يرهقه، وبشكل عام تلونت كل جوانب الحياة بصبغة السرعة وطغت العملية الجارفة والاستهلاك على كل شيء حتى تجرد من روحه، إلا أنه لا يسعنا أن ننكر ارتباط الشباب بتلك الرموز القليلة في موسم الزيتون وسعيهم لاختطاف لحظات سريعة من الماضي بمحاولاتهم البسيطة لتنظيم رحلات وتجوالات لقطف الزيتون يكون الأساسي فيها فقرات الأكل والترفيه ومنتوجها يكاد يكون صفراً أو حتى مشاركة عائلاتهم للسبب نفسه، بنظرة إيجابية يمكننا القول إن هذا الهدف إيجابي أيضاً فهو بجميع الأحوال يعزز العلاقة بين الانسان الفلسطيني والأرض بشكل أو بآخر.
ولكن يبقى السؤال، هل صورة الحاجة محفوظة اشتية التي تحتضن فيها جذع شجرة الزيتون يمكن لها أن تتكر اليوم؟ أم أن ذلك الجيل التحمت أقدامه بجذور الزيتون يوم أن منحها كله وبذل لأجلها وقته وجهده جلّه وهذا ما لم يقم به شباب اليوم.