لعلّ أكثر المتابعين يتذكّرُ كيف جعل عبّاس تعطيل العقوبات رهينًا بحلّ اللجنة الإدارية، وألقى الكرة في ملعب حماس، لتنطلق الدعوات والهاشتاغات على ألسنة النشطاء أن: #حلّوا_اللجنة، حتى ردّت حماسُ له الكرة بتسديدةٍ مفاجئة، فأُسقط في يده، وصار مطلوبًا منه أن يتراجع عن إجراءاته وعقوباته. فوجئ الرجلُ وأُحرج من تنازل حماس الكبير، ووفق تقديرات الصحافة الصهيونية، فإنّه لم يكن مستعدًّا لهذه الخطوة على الإطلاق، وُضع عباس أمام اختبار الشعب، لكنّ ألسنة النشطاء التي سلقت قيادة حماس بأحدّ شفرة، التهمتها القططُ على ما يبدو منذ حُلّت اللجنة، صحيح أنّها سكتت -مكرهةً ربّما- عن حماس، لكنها لم تأخذها الجُرأة بعد لتستهدف عبّاس بعُشر ما صنعت مع حماس سلفًا.
في أوّل لقاء متلفز للرئيس بُعيد حلّ اللجنة، خرج بتصريحات صادمةٍ جدًّا: "عندما تتمكن الحكومة بشكل كامل من المعابر والأجهزة الأمنية والوزارات، سنرفع إجراءاتنا الأخيرة ضد غزة، وأنا مش مستعجل". اخترع عبّاسُ إذن خطًّا جديدًا يقفُ عنده قبل رفع عقوباته، إنه خط "التمكين"، ولسوء حظّ أهل غزة يبدو أنّ عباس تعلّم من درس "حلّ اللجنة الإدارية"، فجعل الخطّ شديد التعرّج والالتواء هذه المرة.
استغلّ عباس مطالبات التمكين لإذلال شركاء المصالحة، كانت إجراءات "التمكين" المزعومة إحلالًا سافرًا لموظفيه، وطردًا مهينًا للموظفين الذين أقاموا على حاجات الناس سنين مديدة، تجلّى ذلك في آلية تسلّم المعابر، إذ استعملت الجرّافات في إزالة آثار من سبق أحيانًا، وتُركت بعضُ المواقع للسلب والنهب بلا أدنى مسئولية، وفي جميع الأحوال، طُرد الموظفون عن بكرة أبيهم، ولم يُدمج منهم في الإدارات الجديدة أحد.
صبرت حماسُ على ذلك صبرًا بدا غير جميل في عيون كثير من المراقبين، وفي نظر أكثر أبنائها وأنصارها، لكنّه كان شاهدًا أمام عامة الشعب على نية الحركة المضيّ في طريق المصالحة، وإن كان الطرفُ الآخر يرى فيها هزيمةً لا صُلحًا، واستسلامًا لا تسلّمًا. يبدو أنّ كل ذلك لم يشفِ غلّ الرئيس من غزةّ، فظلّ يُتحفنا هو وفريقه بين وقتٍ وآخر بتصريحات تكاد تكون طعنات في قلب المصالحة، عن اعتبار "سلاح المقاومة" عقبةً في وجه التمكين المزعوم، قال ذلك بلسانه وتداولته ألسنة كثيرٍ من مسئولي سلطته، حتى بلغت الجُرأة بقائد الشرطة الفلسطينية أن يسمّي "القسام" بالاسم، ويقول: "إنه من المستحيل أن يحفظ الأمن في وجود سلاح القسام".
لعلّ قائد الشرطة نسي أنّ سلاح المقاومة -وخاصة القسام- لم يكد يدخل في نزاعٍ عائليّ أو عمل جنائيّ، بخلاف التاريخ الأسود لسلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية الذي غرّد في مئات القضايا الجنائية، وحملته فرق الموت والرعب لتأديب الشعب، وقتل كلّ من لا يذعن لاستعلاء أفرادها. سلاحُ المقاومة لم يقتل "ميكانيكيًّا" لعدم انصياعه لأمر أحد "رجال الأمن" بإصلاح سيارته في الحال واللحظة، وفي منتصف الليل، كما صنع أحد عناصر السلطة "مستخدماً لتنفيذ جريمته سلاحاً رسمياً يحمله بوصفه موظَّفاً في جهاز أمنٍ رسميٍّ من المفترض أنه جهازٌ مُكَلَّفٌ بحماية المجتمع والمحافظة على أمن الوطن والمواطن وإنفاذ القانون!". وهذه الفقرة منقولةٌ بحروفها من بيان عائلة أحد المغدورين برصاص "السلاح الشرعيّ النظيف".
هذه التصريحات التي لا تفتأُ تذكر سلاح المقاومة، وتنادي بنزعه، هي أكبرُ ما يتهدّدُ إتمام المصالحة، ويبدو أنّ عباس سيُبقيه ورقةً أخيرة، يتنصّل بها من كلّ ما مضى، ويضعُه عقدةً غير قابلةٍ للحلّ، وهذا الأمرُ يفرضُ على حماس استعدادًا جيّدًا، أكثر من حُسن النوايا الذي تُبالغ في إبدائه.
على حماس أن تتذكّر جيّدًا أن عباس لم يأت إلى المصالحة راغبًا مختارًا، بل كما المثل العربي "مكرهٌ أخاك لا بطل"، وأنّه لولا لعب حماس بورقة "دحلان"، وخشية عبّاس من عودته إلى موقعٍ جيّد في السلطة عبر بوابة غزة، لما تحرّك تجاه المصالحة قيد أنملة، وستبقى هذه الحقيقة ماثلةً في كلّ تفصيل من التفصيلات المقبلة، وكما جاء عباس مجبرًا إلى المصالحة، فإنّه لن يقوم بما عليه من التزامات تجاهها إلا مجبرًا أيضًا، فلتر كيف ستُجبره، إذ يبدو أنّ مزيد اللّطف يغريه بمزيد قسوة.
حتى الآن، وقد مرّ نحو شهرين على حلّ اللجنة الإدارية، لم ير الغزّيون من ثمار المصالحة شيئًا، لا الكهرباء تحسّنت، ولا الرواتبُ تُمّمت، ولا الموظفون دمجوا، ولا التحويلات الطبية عادت كما كانت، لا شيء غير الأموال التي بدأت السلطة تجنيها من التعاملات التجارية الغزية.
تبدو المصالحة اليوم بلا فائدةٍ ملموسةٍ لمن عُقدت من أجلهم، لعلّ الحسنة الوحيدة لها أنّ المقاومة لم تعُد في ذلك الوضع الحرج أمام شعبها، وأنّه لم يعُد بمقدور نشطاء الغفلة أن يقرّعوها بهاشتاغات من قبيل "حلوا اللجنة"، وبينما ينام الرئيسُ الـ "مش مستعجل" ملء جفنيه، تبيت غزة ساهرةً على الجمر، وحدها تعدّ الليالي بأرواح أطفالها المرضى، بجوع أبناء عمالها وموظفيها، وبالعتمة التي تأكل القلوب والأعمار.