لم يكن نصر باب الأسباط حدثاً صغيراً يمكن للمستعمر الصهيوني نسيانه أو القفز عنه، فهاهنا فرضت عليه هزيمة محسوسة تحت سمع الجماهير وبصرها إذ فكك بيديه ما نصبه بالأمس من أجهزة ومعدات تحولت إلى خردة بعد أيامٍ من تركيبها ولم تستخدم لمرةٍ واحدة، وهاهنا حرص على تسجيل انسحابٍ نظيف إذ أعاد بلاط الساحات الذي كسره متظاهراً بالعنجهية واللامبالاة قبل أيامٍ فقط، بل وأعاد زراعة الأشجار ليحرص على الانسحاب النظيف، وهاهنا امتدّت معادلة فرض النصر بالقوة إلى الحقيقة الوحيدة التي حاول تكريسها على باب حطة الذي اتخذته الجماهير مدخلاً مختاراً لنصرها الحاسم الذي لا يقبل أنصاف الحلول.
في خميس النصر الذي لم يكمل القمر من بعده دورتين عايش الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي المشهد الذي كان يسكن مخيلته، وتتوق إليه أحلامه، مشهد الجماهير تدخل الأقصى فاتحةً بالتهليل والتكبير. على مستوى الوعي، لربما يثبت الزمن بأن هذه كانت خسارة الصهاينة الكبرى، فالجماهير التي أدرك خيالها أن هذا النصر ممكن وقريب وملموس كيف يمكن إقناعها بأن تفلته وتترك تشبثها به، ذلك الخيال الذي التهب شوقاً إلى المشاركة في المشهد التالي كيف يمكن أن تطفأ الجذوة فيه. الخيال كما علمنا منظر الثورة فرانز فانون هو الساحة الأولى التي تحسم فيها المعركة، ويصنع فيها النصر، فإذا ما بات النصر متخيلاً في وعي الجماهير بات تحقيقه على الأرض مسألة وقتٍ لا أكثر.
لأجل ذلك كله تبادر الآلة الاستعمارية الصهيونية إلى الثأر من نصر باب الأسباط، ويمكن اليوم رصد ردها على جبهاتٍ ثلاث أساسية:
الجبهة الأولى هي الاستفراد برموز الأقصى الذين كانوا طليعة التحفيز والتعبئة في تلك الهبة، لتدفع طليعة المجتمع التي قادت هبته أو شكلت برمزيتها محركات تحفيزٍ للجمهور لحماية المسجد الأقصى المبارك، ليجرها إلى مربع التعب والإرهاق إذ تدفع الثمن منفردةً بلا دعم، أو يبقيها مغيبةً في السجون. في هذا الطريق كان شيخ الأقصى رائد صلاح الذي حاول المحتل إذلاله كما لم يفعل في اعتقالاته السابقة، وتلته الأم المرابطة سحر النتشة التي سلمت نفسها لينفذ بحقها حكم بتهمة "التحريض"، تلتها المرابطتان الصابرتان التوأمتان خديجة خويص ومن بعدها هنادي الحلواني.
إن الدفاع عن هؤلاء الرموز هو جزء لا يتجزأ من الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، ومن حفاظ المجتمع على حيويته وقدرته على الرد والمبادرة كما فعل في نصر باب الأسباط. لقد أفصح درس باب الأسباط عن معنى قوة الجماهير، لقد اجتمع عند باب الأسباط وحول البلدة القديمة في ذروة الأحداث ما يقارب 35 ألفاً، يشكلون ما نسبته 10% تقريباً من المقدسيين، ناهيك عن أنهم كانوا معززين بمن شاركهم من أبناء الضفة الغربية وأحياء القدس خارج الجدار وأراضي الـ48. وإذا كانت معادلة النصر مركبةً من العمل المقاوم الفاعل المنفرد، والهبة الجماهيرية المتصاعدة المقترنة مع خارجٍ شعبي متفاعل، فإن هذا يعني أن هذه المعادلة يمكن تفعيلها على مستوياتٍ أصغر وأكبر.
واضحٌ تماماً أن الحراك الجماهيري لا يأتي بكبسة الزر، ولا تحت الطلب، بل له ظروفه الموضوعية التي تتراكم وصولاُ إلى انفجار، ومن هذه الظروف الموضوعية التي يمكن أن تجعل الانفجار أقرب وأفعل وأكثر تكراراً هو إدراك حقيقة قوة الجماهير، وتشكيل عقيدة الردع الجماهيري لمنع المحتل من تفكيك الأسباب التي تسمح باستعادة الانطلاقة العفوية مرةً بعد أخرى.
وحتى لا ندخل في رطانة المثقفين، إن استفراد الاحتلال برموز الأقصى هو تجريد لنا من عوامل قوتنا وحشدنا، ولمنعه من ذلك فلا بد من تسييجهم بفعل جماهيري كما سُيج الأقصى. المحتل الصهيوني يفهم لغةً واحدةً بوضوح هي لغة القوة، وقوة الجماهير هي حراكها وعددها، وحين يعتقل رمزاً من الرموز ويعرضه أمام المحكمة دون معارضة ويزجه في سجنه إلى ما شاء من الزمن دون ثمنٍ فلن يكون هناك ما يردعه عن ذلك، أما حين يكون يوم عرض الشيخ رائد والماجدات سحر وهنادي وخديجة يوم مواجهةٍ وحراكٍ شعبي وحشد أمام المحكمة وفي القدس وضواحيها، فإنه يدرك أن تركهم حينها أجدى له، وأنه حين سجنهم ليغيبهم استفز الحراك الذي حاول تغييبهم لقتله.
لن نمل القول بأن الردع الجماهيري هو سلاح المرحلة المقبلة، لأن ذلك ثبت بالدليل العملي القاطع، حتى مع تساقط المحيط وجري القوى العربية إلى حضن التطبيع، فخذلانهم لم يمنع نصراً كان ممكناً ومتحققاً في باب الأسباط.
أما جبهة الانتقام الصهيوني الثانية فكانت محاولة التقدم على جبهاتٍ معطلة في القدس، وفي أحياء القدس المركزية تحديداً في البستان وحي الشيخ جراح بهدم بيت أبو اسنينة في الأول وطرد عائلة شماسنة من الثاني. ولأننا لسنا سمكاً ملوناً فإننا ندرك أن محاولة الطرد الجماعي لمواطني تلك الأحياء بدأت عام 2008، وتعطلت على مسار الشيخ جراح بعد تجربة الحاجة أم كامل الكرد وعائلتي الكرد والغاوي من بعدها وخيام الصمود والتضامن والحراك الإعلامي والسياسي والتضامني الذي دفع الاحتلال مرغماً إلى تجميد العمل هناك، وخيمة الصمود وصلوات الجمعة والمواجهات في حي البستان التي جمدت الجبهة هنا، وإن حاول أن يظهر أن العملية القانونية هي ما تعطله، إلا أنه لو كان يجد أفقاً لطرد المقدسيين من الحيين لفعل دون تردد. هنا كان اختبار مبكر لمعادلة الردع الجماهير، وأثمرت مشروعات تهجيرٍ معطلة لتسع سنوات، ولو واصلنا العمل على النهج الذي عطلها فإنها ستختنق لتسع أو عشر سنواتٍ أخرى، وستصبح في خانة المستحيل التنفيذ، وسيدرك المحتل من جديد أنه رغم الجيش والجند والسلاح عاجز أمام الصمود، وأنه وإن احتل المدينة وملك فيها القوة، فإنها كانت وستبقى ملك أصحابها المقدسيين رغم مر الثمن الذي يفرضه عليهم.
جبهة الانتقام الثالثة كانت محاولة فرض وقائع جديدة في الأقصى بإخضاع باب الرحمة لأحكام المحكمة الصهيونية، للقول بأن مخطط التقسيم ماضٍ، وأن محاولة التقسيم المكانية ستمضي إلى الأمام -رغم ما تحقق في باب الأسباط- وعينها على الشطر الشرقي من صحن المسجد الأقصى المبارك المحيط بباب الرحمة من الجهتين. لقد كان هذا المخطط يرتكز إلى مشروع لتحويل باب الأسباط نفسه إلى نقطة جذبٍ للزوار اليهود من خلال بناء مدرج باب الأسباط على أنقاض مقبرة الشهداء والتربة اليوسفية، وهذا سبب تخريبها متزامناً معه، لكن الصهاينة يدركون جيداً أن الرمزية التي صنعها النصر لباب الأسباط جعلت مشروعهم هذا غباراً متناثراً، وإن حاولوا الظهور بمظهرٍ آخر.
على جبهات الانتقام الثلاث هناك وصفة ردعٍ جماهيري فاعلة وممكنة وسبق لها أن أثبتت جدواها، ونحن نفرط فيما بين يدينا من أسباب القوة حين نسمح للاحتلال بالتقدم على تلك الجبهات، حين يتمكن من خطف مرابطةٍ من بيننا دون ثمن، حين يحاكم رموز الأقصى غير متهيّبٍ لما هو آت، حين تذهب أمٌّ وجدة لتسلم نفسها طوعاً إلى حكمٍ بالسجن عوض أن تكون مسيّجةً بجماهير تقدّر تضحيتها وتحميها وتجعل المحتل يحسب ألف حساب حين يفكر في دخول حيها واختطافها من بيتها، نكون نحن من يسمح للمحتل بالانتقام بملء إرادتنا إذ لا نستعمل ما بيدينا من أوراق قوةٍ لردعه، إذ لا نكرس عقيدة الردع الجمهيري التي انتزعت لنا منه نصراً كامل الأركان، ويختار كل منا منح أولوية حياته الخاصة على حماية مجتمعه وقدرته على حماية مقدساته ورموزه وفرض مزيد من التراجع على المحتل.