من أقصر الطرق للتوصل إلى مخرج للمأزق العام الذي تعيشه القضية الفلسطينية بصورة عامة، وقطاع غزة بصورة خاصة، أن تبدي حركة حماس استعدادها، قولًا وفعلًا، للتخلي عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، مقابل تخلي حركة فتح عن هيمنتها على السلطة والمنظمة وإقامة شراكة حقيقية كاملة، هذه النصيحة الصادقة أقدمها لـ"حماس"، متوقعًا أن تجد الاهتمام المناسب لأنها صادرة من شخص لا يمكن اتهامه بمعاداة "حماس"، أو الإساءة إليها.
المعضلة الكبرى التي رافقت "حماس" منذ تأسيسها تتمثل بالجدل حول كونها جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية، أم أنها الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، أم أنها حركة وطنية لها بعد إخواني، اعتبرت "حماس" نفسها في الميثاق أحد أجنحة الإخوان المسلمين، وفي وثيقتها السياسية الجديدة تجاهلت الإشارة إلى هذه العلاقة، وهذا يوضح مدى تعقيد الوضع الذي تعيشه.
تعتبر العلاقة ما بين "حماس" و"الإخوان" نقطة قوتها وضعفها في نفس الوقت، وأصبحت الآن في مرحلة هبوط الإخوان المسلمين وتصنيفهم كحركة إرهابية، وخاصة بعد إسقاط حكمهم في مصر، نقطة ضعف أكيدة. فعلاقتها بالإخوان أعطتها، في البداية، دعمًا سياسيًا وماليًا وامتدادًا عربيًا وإقليميًا وعالميًا ساعد على تقدمها بسرعة، لدرجة أخذت تنافس "فتح" على القيادة والتمثيل، خصوصًا في مرحلة صعود الإسلام السياسي بعد اندلاع ما يسمى بـ"الربيع العربي". وهذه العلاقة أضعفت من كونها جزءًا من الحركة الوطنية، ما جعل أولوياتها غير واضحة، وتجعلها مرتهنة لأولويات الجماعة الأم الممتدة على مساحة العالم كله. وعلى "حماس" أن تحل المعضلة من خلال جعل كونها جزءًا من الحركة الوطنية هو الطابع الرئيسي.
ما سبق مسألة في غاية الأهمية، لأن القضية الفلسطينية قضية تحرر وطنية وعادلة ومتفوقة أخلاقيًا، حيث يتضمن القانون الدولي والشرعية الدولية الحد الأدنى من الحقوق. صحيح أن لها أبعادًا متعددة سياسية ودينية وغيرها، إلا أن البعد السياسي التحرري هو البعد الأساسي الذي يعطيها دعمًا سياسيًا وماديًا وإنسانيًا لا حدود له، ما يجعلها مصدر جذب واستقطاب ودعم من قوى وقطاعات سياسية ودينية واجتماعية مختلفة، والتعامل معها كقضية دينية يلحق بها ضررًا فادحًا ويصب في صالح "إسرائيل" التي تحاول جاهدة تديين الصراع، خصوصًا منذ سيطرة اليمين واليمين الديني المتطرف على الحكم.
ولا يقتصر الخطر هنا على التعامل الدولي، وإنما من الضرورة بمكان من أجل تحقيق وحدة وطنية وحقيقية وفعالة لشعب متنوع الأفكار والمعتقدات والأديان مثل الشعب الفلسطيني، أن يكون هناك فصلا ما بين السياسة والدين، "فما لله لله وما للوطن للجميع".
وثمة معضلة أخرى كبيرة تواجه "حماس"، وهي محاولتها الجمع ما بين كونها حركة مقاومة وبين دخولها سلطة تحت الاحتلال ومقيدة بقيود مجحفة وبالتزامات أوسلو المتناقضة مع المقاومة من دون توفر القدرة على تجاوز هذه الالتزامات، ما جعل "حماس" تراوح ما بين المواءمة بين حماية السلطة التي تقتضي وقف المقاومة والالتزام بهدنة مفتوحة، وبين ممارسة دورها كحركة مقاومة مفترض أنها سيطرت على السلطة من أجل حماية المقاومة.
لعل هذا ما يفسّر المأزق العميق الذي تعيشه "حماس" الآن، فهي تحكم سلطة محاصرة معرضة للعدوان، وملتزمة بهدنة مفتوحة مع الاحتلال، وإذا أرادت أكثر من معادلة "هدوء مقابل هدوء" عليها أن تقدم تنازلات تتعلق بالاعتراف بـ"إسرائيل" ووقف المقاومة ومحاربتها، والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية.
كما فشلت "حماس" في تقديم نموذج للحكم الرشيد الوطني الديمقراطي التعددي، وتجلى هذا الفشل في عدم القدرة على توفير احتياجات الناس من الحريات، والحقوق، والمساواة، والعيش الكريم، وفرص العمل، والتعليم، والصحة، والكهرباء، والماء، والتنقل من وإلى القطاع، ما جعل الخيارات تضيق، لدرجة اضطرت فيها "حماس" للتحالف مع عدو الأمس وامتداداته الإقليمية التي تعتبر أشد عداء للمقاومة وللإخوان المسلمين التي تعتز "حماس" بأنهم مرجعيتها الفكرية تحت وهم إمكانية الجمع بين محاور متناقضة.
ما أجبر "حماس" على تغليب الإنساني على السياسي رغم إضفاء الطابع الوطني على التفاهمات أن الرئيس محمود عباس وسلطته أغلقوا أبواب المصالحة والوحدة، ووضعوا "حماس" أمام احتمالين أحلاهما مر: إما الاستسلام وتمكين خصمها السياسي "فتح" من قيادة السلطة التي من المفترض أن تكون فيها "حماس" أقلية فقط، أو تقلع شوكها بيدها ولو عن طريق الاستعانة بالشيطان ومحاولة توسيع اللجنة الإدارية، وما يعنيه ذلك من تحويل الانقسام إلى انفصال.
وهناك خيار ثالث أمام "حماس"، وهو التخلي عن السيطرة الانفرادية على القطاع، كخطوة لإقامة سلطة جديدة تجسد الوحدة الوطنية. وبدلًا من ذلك قدمت "القسام" مبادرة تتضمن خلق فراغ أمني وسياسي، حتى ولو كانت مجرد مناورة لا أكثر، إلا أنها بدت كضربة يأس وأظهرت "حماس" فاقدة للخيارات ولا تملك سوى التهديد بتنفيذ خيار شمشون الجبار "علي وعلى أعدائي يا رب".
أخطأت "حماس" عندما سيطرت على السلطة من دون أن تضمن قدرتها على توفير احتياجاتها، وعندما تصورت أن على الآخرين أن يمولوها أو أن يرفعوا الحصار عن القطاع من دون أن تقدم التنازلات المطلوبة، وعندما تعاملت مع ملف المصالحة على أساس إعطاء الأولوية لاستمرار سلطتها على القطاع والحفاظ على المكاسب التي لديها والسعي للحصول على مكاسب جديدة، مثل الدخول إلى منظمة التحرير ومؤسساتها.
في هذا السياق نرى كيف قدمت "حماس" مسألة الاتفاق على الالتزام بتمويل رواتب الموظفين الذين عينتهم على أي شيء آخر، ما يعني عمليًا تمكين سيطرتها على السلطة وصبغها بالشرعية. وهذا أدى إلى تهميش مسألة الاتفاق على البرنامج الوطني، إذ لم يأخذ الأهمية التي يستحقها في كل حوارات واتفاقات المصالحة.
كان وما زال أمام "حماس" أكثر من سيناريو بعد الانقلاب/الحسم، الذي بررته بأن هناك خطة للإطاحة بها فتغدت بخصمها قبل أن يتعشى بها، منها: تقديم مبادرة تقضي بالاكتفاء بالدخول إلى السلطة من دون أن تحكم (منفردة أو بالشراكة)، حتى لو كان لديها أغلبية برلمانية، وفي هذه الحالة تتحكم بالسلطة من دون تحمل المسؤولية عنها، وتجنبها عواقب دخولها إليها، وهذا أفضل بكثير مما حدث، (وهذه الحالة حصلت في إيطاليا وفي قبرص أكثر من مرة)، أو عدم الانخراط بالسلطة أصلًا، وعدم تصديق أن هناك إمكانية لتطبيق مبدأ تداول السلطة تحت الاحتلال، فالسيادة للاحتلال وليس للسلطة.
المخرج واضح، وهو التخلي عن السيطرة الانفرادية وحل اللجنة الإدارية وإعادة النظر في الهيكل الوظيفي المدني والأمني في الضفة والقطاع على أسس وطنية ومهنية، مقابل تخلي "فتح" عن الهيمنة وعن إجراءات السلطة العقابية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإقامة شراكة حقيقية على أساس رؤية وإستراتيجية جديدة يتم على أساسها إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، لتضم مختلف القطاعات والقوى التي تؤمن بالمشاركة، وإعادة النظر بطبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها لتصبح سلطة أخرى مجاورة للمقاومة.
وإذا فكرت في الرد المتوقع لحماس على هذه النصيحة، فهو سيتركز على ما هي الضمانة لاستجابة الطرف الآخر. نعم، هذه الاستجابة غير مضمونة، لكن استعداد "حماس" لإعطاء الأولوية لبلورة رؤية وطنية شاملة وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني والتخلي عن السلطة بشكل منفرد، سيفتح الباب لحماية المقاومة، وقيام جبهة وطنية عريضة متعاظمة باستمرار وسرعة، بحيث تفرض إرادة الشعب الفلسطيني على الجميع. ويمكن تقديم مثل هذه النصيحة لفتح أيضًا، فقد انتهى العهد الذي يستطيع فيه فرد أو مجموعة أفراد أو فصيل وحده قيادة الفلسطينيين. ففلسطين بحاجة إلى جميع أبنائها وقواها الحية.