واضح بأن الخيارات المتاحة للسلطة الفلسطينية باتت محدودة جدا، وكذلك هوامش المناورة تضيق أمامها، ودورها يتقلص إلى ما هو أقل من إدارة مدنية، فـ"إسرائيل" حسب ما ذكر موقع جريدة "هارتس" الإلكتروني، بأن الهيئة الأمنية الإسرائيلية بصدد إعداد مخطط واسع النطاق لرفع مستوى "الإدارة المدنية" في الضفة الغربية بزيادة كبيرة لأعداد العاملين فيها، وبما يصل لأكثر من ألفي موظف يقدمون الخدمات للفلسطينيين والإسرائيليين في الضفة الغربية وإلغاء مكانتها التاريخية كوحدة عسكرية، وهذا يعني بأن جزء كبيرا من الخدمات التي تقدمها السلطة أو عن طريقها ستصبح من صلاحيات الإدارة المدنية، أي بمعنى آخر أن "إسرائيل" تعد العدة وتستبق انهيار السلطة من أجل وراثة صلاحيتها في الضفة الغربية، فهي ترى بأن وجود هذه السلطة مرحلي، وأنها استنفذت الأهداف والأدوار المطلوبة منها، وأن خيار حل الدولتين قد أسقط وبالتالي الأفق السياسي مسدود ومغلق.
وأيضاً الحالة الفلسطينية إمكانية تحقيق المصالحة فيها تكاد تكون شبه معدومة، وأبو مازن سيحتدم الصراع على خلافته بين أقطاب ومحاور فتح،،والسلطة سيتحول دورها إلى حفظ الأمن ومنحها دور حكم ذاتي محدود، فأمريكا و"إسرائيل" لا تمتلكان خططاً واضحة تجاه السلطة الفلسطينية لجهة التقوية أو الحل لها، وأفق تحول السلطة إلى دولة غير متوفر في اللحظة الراهنة، و"إسرائيل" تتمترس حول رفض خيار حل الدولتين، وأمريكا لا يوجد لديها خطة سياسية واضحة لحل الأزمة أو القضية، وغرق الإدارة الأمريكية في مشاكلها الداخلية والصراعات العربية - العربية من الحروب المذهبية والطائفية إلى الأزمة الخليجية والوضع الداخلي الفلسطيني المنقسم والمنشطر على ذاته، كلها تعزز الموقف الإسرائيلي برفض حل الدولتين والإصرار على ما يسمى بالحل الإقليمي وتنفيذ صفقة القرن.
وصفقة القرن لا تعطي السلطة سوى دور مقاول درجة ثانية حيث المطروح "كونفدرالية" بين قطاع غزة ومصر، أو لربما خيارات غزة بالتحول إلى دولة أكثر بكثير من خيارات الضفة الغربية، حيث المطروح في الضفة "كونفدرالية" مع ما يتبقى أو ما يزيد من الأرض الفلسطينية عن حاجة الأمن الإسرائيلي مع الأردن وبتقاسم وظيفي مع السلطة.
ما يسمى بالمحور السني العربي يرفض تحول السلطة إلى دولة، ويعمل على تسوية للقضية الفلسطينية تتفق وتتكيف مع خياراته وأهدافه، و"إسرائيل" تجد أن الحالة الراهنة مريحة لها في جعل السلطة تستمر في القيام بدورها الأمني وبسلطات محدودة ومقيدة، وهي تتحرك في الميدان بحرية تامة لجهة تعزيز وتوسيع الاستيطان ومع تقدم مخططاتها ومشاريعها وتوسيع صلاحيات الإدارة المدنية تتحول السلطة إلى وكيل أمني يحفظ أمن السكان فقط وبعض القضايا الخدماتية والمدنية.
الخشية الكبرى بأن بقاء الوضع على ما هو عليه مع استمرار " التغول" و"التوحش" الاستيطاني، قد يدفع نحو انفجار شامل تقوده الجماهير الفلسطينية، كما حصل في هبة الأقصى، وبالتالي تكون تداعيات ذلك أوسع وأشمل على المنطقة، وهذا الخيار مقلق ومزعج لإسرائيل وليس السلطة الفلسطينية فقط، فالسلطة تصبح مقلقة لإسرائيل إذا قياداتها تخلت عن مصالحها واستثماراتها وامتيازاتها واقتربت من التعبير عن نبض شعبها وشارعها ومست همومه، وهذا يتطلب امتلاك الإرادة السياسية والاستعداد لدفع الثمن والوقف الكلي للتنسيق الأمني والاستفادة من دروس هبة الأقصى، ولكن حتى اللحظة لا يوجد مؤشرات جدية على أن السلطة ستسير في هذا الخيار.
حيث أن هبة الأقصى كشفت بشكل واضح عجز السلطة وقصور القوى والأحزاب السياسية عن التقاط اللحظة المناسبة والاستثمار الصحيح في هبة الأقصى وما تحقق من إنجاز صغير ذو مغازٍ ومعاني كبيرة في سياق صراع مستمر واشتباك جماهيري متواصل مع المحتل، يمكن البناء عليه، نحو تحقيق المزيد من الانتصارات الصغيرة المتراكمة التي تمهد لتعديل جدي وحقيقي في ميزان القوى المختل كثيراً لصالح المحتل.
"إسرائيل" تدرك جيداً بان انهيار السلطة الفلسطينية من شأنه إحداث فراغ وصراع بين المليشيات والأجنحة المتصارعة، وبالتالي هذا الفراغ قد يأخذ شكل الصراع المسلح، وربما تنجح عناصر كما تسميها هي بالمتطرفة من السيطرة على الوضع، وهذا قد يشكل خطرا على مستوطنيها ومستوطناتها في الضفة الغربية، ولذلك هي تكون قد أعدت ببناء جهاز كامل للإدارة المدنية في الضفة الغربية، ومن ثم التدخل العسكري من أجل تصفية تلك المليشيات والأجنحة المتصارعة، أو قد تنجح في تدجينها بتنصيب قيادة ترى أنها قادرة على ضبط الوضع والسيطرة عليه وبما لا يمس بأمنها، ودون ذلك ستحاول فرض أمر واقع على شعبنا الفلسطيني.
إذا ما صارت الأمور بهذا الاتجاه وسيطرت "إسرائيل" بشكل نهائي على الضفة الغربية، فإن الأمور ستذهب نحو تكريس حالة الانفصال بشكل نهائي بين الضفة والقدس والقطاع، وسنكون أمام دويلة في غزة محاصرة وإمكنيات تحولها إلى دولة تكاد تكون معدومة، فلا سيطرة لها على بر أو بحر أو جو أو على معابر أو حتى حرية حركة وتنقل، وهذا يعني أننا سنكون أمام تشظي وانقسام سياسي مكرس وانفصال جغرافي نهائي.
ولذلك أرى بأن الهروب من هذا المأزق ليس من خلال عقد مجلس وطني فلسطيني جديد بمن حضر، فعقد المجلس الوطني على هذا الأساس ليس فقط يكرس ويشرعن الانقسام، بل ويصفي بشكل نهائي القضية الفلسطينية.
حيث سينتقل الصراع من على مؤسسات السلطة والسلطة نفسها إلى صراع على شرعية ووحدانية التمثيل، والمبرر والذريعة، هي البحث عن شرعية متآكلة جراء عدم إجراء الانتخابات، خطر جدا عقد جلسة مجلس وطني جديد في ظل غياب رؤية وإستراتيجية موحدتين وعدم توفر شراكة وطنية حقيقية، خطر إنهاء وحدانية التمثيل الفلسطيني المستند إلى مشروع وطني واحد قائم على الرواية والحقوق التاريخية ووحدة القضية والأرض والشعب.
فالمجلس الوطني يجب أن يشكل محطة مهمة لاستنهاض الحالتين الوطنية والشعبية لمواجهة الاستيطان والاحتلال، ولذلك أرى أن السلطة الفلسطينية، عليها أن تراجع خياراتها نحو تصليب وتمتين وتوحيد الحلقة الفلسطينية وفق برنامج وطني توافقي ورؤيا وإستراتيجية موحدتين، تقومان على أساس تفعيل وتصعيد الكفاح والاشتباك الجماهيري والسياسي والدبلوماسي والقانوني والحقوقي مع المحتل بشكل متواصل، وتوفي كل ممكنات ومقومات الصمود، بعيداً عن استخدام ذلك كخيارات تكتيكية بائسة للعودة للخيار التفاوضي المدمر.