"كأن الانتفاضة الثالثة خلصت بكّير؟ كانت أقصر من الانتفاضة الثالثة يلي قبلها. كل انتفاضة ثالثة وأنتم بخير." هكذا كتبت الناشطة الفلسطينية بدور حسن على "تويتر". أصبحت "الانتفاضة الثالثة" عبارة مكررة لا يتعاطى معها أحد بجديّة، غير الصحافة الجائعة للعناوين. دون أن نجهد الذاكرة يمكن أن نذكر "انتفاضات ثالثة" سمعنا عنها في الفترة الأخيرة مرتين أو ثلاثة بما يتعلّق بالأسرى، واحدة أخرى عندما استشهد محمد سلايمة يوم عيد ميلاده السابع عشر في الخليل، وأخرى في أحداث يوم النكبة 2011، وبالتأكيد: انتفاضة ثالثة كلما زمجر القائد الأسطوري أبو مازن في مبنى الأمم المتحدة.
وقد يبدو أن تفجّر الثورات في الوطن العربي قد أقنع الفلسطينيين بأن الانتفاضة لا يمكن توقّعها، لكنّ الحقيقة أن هناك مجموعة كبيرة من المشتغلين في السياسة من نشطاء وقيادات وصحافيين ومثقفين مستفيدة من وهم انعدام امكانيّة توقّع الانتفاضة الثالثة. فمنهم من يسبح مع تيار جارف من التعاطي الثقافي والفكري دون الحد الأدنى من أدوات التحليل النظريّة أو الحد الأدنى من الاختلاط بالناس وفهم همومهم اليوميّة ومزاج الشارع، ومن المريح لهؤلاء أن يتهربوا من الإجابة حول سؤال "إلى أين؟" بأننا لا نستطيع التوقّع.
من جهةٍ أخرى نعرف ناشطين وقيادات سياسيّة مركزيّة تحلّ بركتها علينا عبر الصحافة في الصباح والمساء، وعندما تُسأل "إلى أين؟" تُجيب: "علمتنا التجربة أنه من الصعب توقّع اشتعال الانتفاضة". ونحن نسأل: أي وقاحة يحتاجها قائد سياسي في فصائل حركة تحرر ليجيب على سؤال الانتفاضة – أي سؤال فتح المواجهة مع الاحتلال- بأنه من الصعب التوقّع؟ هل شغل الأستاذ القيادي أن يطلق الثورة أم يتوقّعها؟ ما كم الوقاحة المطلوبة لكي تبقى شخصيّة طوال هذه السنوات تطلق على نفسها لقب "قيادي" وهي لا تملك رؤيةً إلى ما يجب أن تؤول إليه الأمور، ولا تملك إرادة لما يجب أن يحدث، ولا تقود الشارع إلى أي مكان.
لئلا أُفهم بشكل خاطئ – ليس المطلوب تنبؤ الانتفاضة القادمة بنعمٍ ولا. المطلوب هو من يقدّم رؤية سياسيّة واضحة وشاملة وصادقة في فلسطين، تضمن فهمًا للتركيب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي القائم اليوم وتؤسس عليه برنامجها العمليّ. هذا ما لن تجدوه عندنا.
ليست الانتفاضة الحدث الذي يُشعلها، بل هي قدرة المجتمع على الصمود والاستمرار وتحويل المواجهة إلى واقع يوميّ ولهذا شروط عديدة تتعلق بأحوال المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزّة، وتتعلّق بعمق الوجود الإسرائيلي العسكري في هذه المناطق. لكن الأهم من هذا كله، وهنا تكمن القضيّة الأساسيّة: البنية السياسية والإدارية الفلسطينية التي تحتفظ بالقرار، فتح أوسلو في الضفة وحماس في غزّة.
الحقيقة الأساسيّة واضحة: لا كروش أوسلو ولا لحى حماس معنيّة بالقواعد الشعبيّة للعبة، ومن دون الأخيرة لا يمكن الحديث عن أي انتفاضة. حماس تقمع أي محاولة لوصول المتظاهرين إلى الحواجز (هذا في حال سمحت بالتظاهر)، أما سلطة أوسلو في الضفة فمسلسل العمالة مستمر: في الخليل تقدّمت قوّات الشرطة الفلسطينية الجيش الإسرائيلي بأمتارٍ قليلة وحمته في مواجهة الشبّان، وزير الأسرى أصدر مرسومًا بقطع مخصصات الأسرى عن أي أسير يهرّب له أهله احتياجاته الذي تمنعها إسرائيل، واعتبار من تعتقله إسرائيل على خلفية تهريب بأنه سجين جنائي، وقبلها فصلت وزارة الأسرى بعض موظّفيها الذين دعوا للإضراب عن الطعام تضامنًا، كما قمعت السلطة المتظاهرين الذين توجّهوا الى نقاط التماس في مدن الضفة الغربيّة، ما عدا نقاط تماس "تفريغ الغضب" الذي تعتمدها السلطة وتوجّه المتظاهرين إليها وتحصرهم فيها.
"الانتفاضة الثالثة" أصبحت درعًا للاختباء من الحقيقة التي يجب أن نقولها بصوتٍ مرتفع: لا يمكن أن ينهض المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة ضد الاحتلال إذا لم يوجّه ضرباته أولاً للسلطة الحاكمة في الضفة وغزّة، والتي تقمع كل تحرّك شعبي وتحتكر العمل السياسي في قبضة مكاتبها السياسية.
*الصورة أعلاه لمحمود هريش.