شبكة قدس الإخبارية

هل شركاتنا وطنية فعلاً!

حبيب عمران
يكثر الحديث في أوقات الأزمات وفي الدول المنكوبة عن "الوطنية"، باعتبارها نقطة امتياز لمدعيها ومرجعية دعم واسناد أساسية لمواقف وتصريحات الأفراد والمؤسسات بغرض حمايتها من المساءلة. وقد رُوِيَ عن مالكوم إكس (Malcolm X) أنه قال: "من المفترض أن لا تكونوا عُميا تجاه مفهوم الوطنية إلى الدرجة التي تمنعكم من مواجهة الواقع؛ فالخطأ يبقى خطأً، بغض النظر عن مصدره". ومن هنا، يأتي هذا المقال استكمالا للمقال السابق[1] ملقيا الضوء على أحد العوامل المساهمة في تأخير تحرير فلسطين؛ ويبحث في مفهوم "الوطنية" وتداعياته على المجتمع الفلسطيني. فما هو معيار الوطنية؟ وما الذي يطلق صفة الوطنية على أو ينزعها عن هذا الشخص أو تلك المؤسسة؟ وما هي آثار ادعاء الوطنية على المجتمع الفلسطيني؟ إن من أشهر وأخصر التعريفات للوطنية هي أنها "حُبّ الوطن، وحماية مصالحه، والذود عنه". وبالرغم من متانة هذا التعريف فإنه يظل أُحاديّ الجانب، وناقص، وخطير من الناحية العملية؛ حيث أنه يستثني عنصرا هاما من المعادلة، وهو "المواطن". لو بحثنا في ممارسات أغلب المؤسسات والأحزاب السياسية في واقعنا العربي، فإنها تتخذ موقفا سلبيا من قطاع من الشعب -صغيرا كان أو كبيرا-؛ فهُمْ وإن أظهروا احتراما وتقديرا لأتباعهم ومناصريهم، فإنهم يميلون إلى التقليل من مخالفيهم بشكل عام، هذا إن لم يجنحوا إلى تجريحهم بل وتخوينهم في بعض الأحيان. إن "الوطنية" التي ننشدها، هي تلك التي تعني أخذ موقف إيجابي من الوطن والمواطن على حد سواء؛ إذ لا وطن بدون مواطنين، ولا يمكن لوطن ما أن يعلو شأنه ما لم ينهض به أبناؤه، والإساءة إليهم تعني بطبيعة الحال الإساءة إلى الوطن ذاته والتقليل من قيمته في النفوس. "الوطنية" وأثرها على النفس بعد فشل القومية العربية في إحداث التغيير الإيجابي المنشود في الدول العربية، خصوصا بعد نكبة حزيران 1967م، ورضوخا للأمر الواقع، فقد أخذت أغلب الدول العربية –ومعها منظمة التحرير الفلسطينية- تتجه تدريجيا نحو تبني شعارات وسياسات "وطنية" تنكفئ على الذات وتُهمل القضايا العربية الإقليمية. لكن في الحالة الفلسطينية، بدأ المصطلح ينتشر بقوة –فيما يبدو- لمواجهة المد الكبير للحركات الإسلامية الفلسطينية، خصوصا بعد اتفاقية أوسلو؛ حيث أصبحت الحاجة ملحة لتوضيح هوية الأحزاب السابقة، ولا يوجد أفضل من نسبة النفس إلى الوطن لأخذ الشرعية. ومع هذا الاستخدام الخاطئ للمصطلح –من بين عوامل أخرى عديدة-، بدأت تظهر تدريجيا العديد من الممارسات الغريبة على مصطلح "الوطنية" بحيث أصبح من الصعب التفريق بينهما؛ فذاك القرار الإداري اتخذ صفة "الوطنية" من باب أخذ الشرعية، وتلك العملية الاقتصادية اتخذت صفة "الوطنية" بحثا عن نجاح دعائي وترويجي لمنتجها؛ ناهيك عن القرارات السياسية المُمعنة في الحزبية. وهكذا، فقد تم إغفال كلٍّ من "الوطن" و"المواطن" من كثير من ممارسات الفلسطينيين مع مرور الزمن، وأصبحت "الوطنية" معيارا للنجاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون أن يكون هناك آلية واضحة لقياسها. هذا الاستخدام الخاطئ يؤثر سلبا –بشكل واضح- على التقييم السليم للمواقف السياسية والاقتصادية المختلفة؛ إذ أنه أدخل معيارا غامضا -وغير قابلٍ للقياس- على الساحة؛ ومع كَونِ هذا المعيار مرتبطا بالوطن، فقد بدأت "هالة القداسة" الخاصة بالوطن تنتقل تدريجيا إلى ممارسات الفلسطينيين الحياتية. ومع مرور الزمن، أصبحت أي محاولة لنقد هذه التصرفات أو الممارسات تمسّ بشكل مباشر الوطن ذاته، حتى وإن كان النقد بناءً. ومع عدم وجود معيار واضح لإطلاق الوصف أو نزعه عن الموصوف، فإنه يتم -مع مرور الزمن- إضعاف النقد الذاتي والتغذية الراجعة في المجتمع، مما يضر بشكل مباشر عملية التطور والبناء في شتى المستويات من مؤسساتٍ وأفراد. ماذا يعني أن تكون الشركات "وطنية"؟ استكمالا للسياق، ينتقل الحديث الآن إلى انعكاسات مصطلح "الوطنية" على القطاع الاقتصادي... استنادا إلى التعريف المعتمد في هذا المقال، فإن الشركات تكون "وطنية" إذا ما جعلت مصلحة الوطن والمواطن من أهم أولوياتها، بالإضافة إلى النجاح الاقتصادي بطبيعة الحال. وفي ظروف مثل الحالة الفلسطينية –حيث انخفاض مستوى المعيشة لنسبة كبيرة جدا من الشعب، وخصوصا أوقات الأزمات كالانتفاضة والحرب على غزة-؛ في هكذا ظروف، ينبغي على الشركة التي تريد أن توسِم نفسها "بالوطنية" أن تسعى جاهدة إلى التخفيف من تدهور أوضاع المعيشة للمواطنين، في مقاربة مربحة لها نوعا ما، ولكن في نفس الوقت لا تُثقل على المجتمع. ولا يدعي الباحث سهولة هذا الأمر، ولكنه ممكن التحقيق! إذا، ماذا ننتظر من "الشركات الوطنية"؟ في الحقيقة يوجد العديد من الوسائل التي تُمكّن الشركات من خدمة المجتمع دون الإضرار بمصالحها الاقتصادية، منها:
  • التخفيف من نسبة الربح: حيث أن نسب الأرباح المرتفعة تُثقل من الحمل على كاهل المواطنين، الذين يكاد نسبة كبيرة منهم لا يكسب دخلا ماديا فوق خط الفقر[2].
  • رفع مستوى الأجور: حيث أن العديد من المواطنين[3] يكسبون أقل من مستوى خط الفقر بكثير.
  • تحسين الخدمات والفوائد والتأمين: حيث أن ذلك يخفف من عبئ التكاليف الملقاة على كاهل المواطنين.
هل شركاتنا وطنية فعلا؟ بعد هذا السرد، يلوح في الأفق هذا التساؤل؛ فهل شركاتنا الفلسطينية "وطنية" فعلا ؟! قبل الخوض في الإجابة، فإن لمحة سريعة إلى الواقع توضح للقارئ عمق هذه المشكلة في المجتمع الفلسطيني. ففي معظم استطلاعات الرأي، وفي العديد من المقابلات الصحفية، يتم عمل مقابلات مع عدد من الناس حول شركة فلسطينية معينة، لأخذ آرائهم تجاهها وتجاه منتجاتها، وتكون الآراء إيجابية بالطبع –تماشيا مع الهدف الترويجي-؛ لكن الذي يعنينا في الأمر هو أنه لا يكاد يخلو رأي من هذه الآراء من الإقرار بأن الشركة موضع السؤال هي "شركة وطنية" دون توضيح أو استطراد! وفي المقابل، يجد المتابع تناقضا هائلا بين هذه الاستطلاعات وبين التقارير التي تظهر بين الفينة والأخرى حول فضائح لبعض الشركات الفلسطينية؛ حيث يصعب أن ينسى المتابعون حادثة خصم تكاليف الإسعاف والرعاية الطبية من راتب العامل الذي توفي جراء تعرضه لحادث أثناء عمله، أو اعتبار اليوم الذي استشهد في صبيحته أحد العمال يوم غياب غير مدفوع الأجر! ولن أستطرد كثيرا في هذا الباب، فالممارسات كثيرة إلى الدرجة التي يصعب ذكرها في مقال قصير كهذا. لكن، وبغض النظر عن هذه الممارسات المشينة – التي يعتبرها البعض فردية-، فإن هناك أنماطا من هذه الممارسات تكاد تتطابق عند غالبية الشركات. فبعض الشركات تضع نسب أرباح فاحشة على منتجاتها، حيث يصل بعضها أحيانا إلى 300% وأكثر مثل بعض الملبوسات النسائية؛ والعديد من الشركات لا تعطي عامليها الحد الأدنى من الأجور[4] المنصوص عليه في القانون الفلسطيني! كما أن ساعات العمل الإضافية غالبا ما تكون غير مدفوعة الأجر! بالإضافة إلى ضعف الخدمات والفوائد المقدمة للعمال؛ حيث أن التأمين الصحي ضعيف ولا يغطي كامل الحالات المرضية؛ ولا يوجد بَدَلات كافية للعمال عن المواصلات وغيرها. بل إن بعض مصانع المواد الغذائية الكبرى تبيع منتجاتها لعمالها وموظفيها بالسعر الكامل أو ما يقاربه! من الواضح أن ممارسات هذه الشركات هي أبعد ما تكون عن مصالح المواطنين؛ بل هي بعيدة حتى عن مصالح عمالها وموظفيها! كيف يُسهم هذا في تأخير تحرير فلسطين؟ إن صعوبة أوضاع المعيشة لجزء كبير من أفراد الشعب يجعل الهمّ الشاغل للناس هو البحث عن لقمة العيش بدل السعي نحو التحرير؛ ومع رؤية طبقة أصحاب المال والأعمال تزداد ثراءً في حين يزداد وضع العامة بؤسا، فإن التفكك المجتمعي يصبح أمرا واقعا. هذه الحالة غير الصحية تُضعف حتما من قيمة أي عمل ثوري ومقاوِم. وهكذا بدأ الناس ينكفئون تدريجيا على ذواتهم، غير آبهين بالضرر الجسيم اللاحق بإخوانهم المكروبين. وبهذا، يُصبح جشع أصحاب المال الفلسطينيين سببا مباشرا في تأخير التحرير؛ ومع بقية الأسباب –المذكورة في المقال السابق- يُصبح من الواضح أن تأخير التحرير أمر مفهوم وله مقدماته المنطقية، وسوف يستمر ما لم يتم إصلاح مكامن الخلل من جذورها. [1] أنظر مقال "لماذا لم تتحرر فلسطين بعد؟"؛ https://www.qudsn.ps/article/119844. [2]  صرح مفتي مدينة الخليل في مقابلة إذاعية أن خط الفقر المعتمد في دار الإفتاء هو 3 آلاف شيقل شهريا، (تقريبا 780 دولار أمريكي). [3]  في دراسة لغرفة تجارة وصناعة الخليل عام 2010، تبين أن قرابة ربع الأيدي العاملة في المحافظة يكسبون أقل من 2000 شيقل شهريا. [4] وهو يساوي 1450 شيقل شهريا، عن 8 ساعات عمل يوميا لـ 6 أيام في الأسبوع، وهو ما يعادل 380 دولار أمريكي.