بيت لحم - خاص قدس الإخبارية: بعد وضعها على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر والتي ضمت 100 موقع عالمي كانت كنيسة المهد المكان الأكثر قداسة في العالم لدى المسيحيين على موعد مع انطلاق أعمال الترميم تزامناً مع الاعلان عن تشكيل لجنة رئاسية مختصة عام 2008 لتظهر في ربوع الكنيسة معالم جديدة وملامح كانت قد طُمست وتخفي وراءها تفاصيل من الجمال والعراقة تسّر الناظرين.
كنيسة المهد التي بنيت في العام 362 للميلاد، على يد الامبراطور قسطنطين بطلب من والدته القديسة هيلانة، والتي تم تجديدها بعد الحرب مع السامريين عام 529 ميلادي، لا زالت شاهدة اليوم على تاريخ يحتفي به الفلسطينيون للمكان الذي جرى تسجيله ضمن لوائح التراث العالمي في اليونسكو عام 2012 كإنجاز فلسطيني عالمي كبير.
وبدأت حكاية الترميم كما يروي إبراهيم عبد ربه المهندس الأول في مشروع ترميم الكنيسة بعد اتفاق الطوائف المسيحية الثلاثة الروم الأرثوذكس واللاتين الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس، وبرعاية رسمية فلسطينية على وضع خطة للبدء العملي بالترميم حيث افتتحت السلطة الفلسطينية باب الدعم والتمويل بمليون دولار.
جرى البدء على إثرها بإجراء دراسات علمية مختصة بحضور خبراء من إيطاليا وكندا و شركة استشارية فلسطينية عام 2009، ليتم الانتهاء من إجراء المسح وتسليم الدراسة النهائية للمشروع في عام 2011 حيث تم طرح العطاء الذي تضمنته شركة إيطالية لحصولها على أفضل الأسعار والعروض الفنية.
ويضيف عبد ربه لـ قدس الإخبارية، بأن اللجان المختصة باشرت فوراً بالمرحلة الأولى والتي تضمنت تركيب السقالة الداخلية وفحص كافة العناصر الخشبية (الجمالونات) الحاملة للكنيسة، وتحديد نسبة التآكل التي تحددها اليونسكو بمقدار لا يتجاوز 25% قابلة للإزالة وعلى إثر الموازنة بين القوانين الدولية ومراعاة الإبقاء على المعالم الأثرية، تم تغيير ما نسبته 8% من الخشب الموجود واستبدال القطع المتضررة بخشب قديم من إيطاليا، يتجاوز عمره 300 سنة.
وأشار عبد ربه إلى انتقال أعمال الترميم بعد ذلك مباشرةً إلى السقف الذي شهد عام 1882 آخر أعمال ترميم، وجرى استبدال الطبقة الموجودة فوق الخشب وتحت شرائح الرصاص التي بدا التآكل واضحاً عليها، بسبع طبقات لتشكّل حماية من التكاثف والبخار والحرارة والبرودة بمقاييس فنية تضمنت إضافة صوف الغنم، كما أنها شملت استبدال 42 شباكاً وتغيير الزجاج فيها بإضافة عازل زجاجي يمنع دخول الأشعة التي من شأنها إلحاق الضرر بالعناصر الفنية الموجودة داخل الكنيسة.
قذيفة ورصاص في سقف وجدران الكنيسة
وذكر عبد ربه لـ قدس الإخبارية، بأنه خلال أعمال ترميم السقف فوجئ الطاقم بوجود آثار قذيفة "إسرائيلية" كانت أطلقت إبان النكسة في العام 1967، والتي تركت آثاراً في السقف وشرائح الرصاص والجسور الخشبية الداخلية، حيث أجري على ما يبدو في ذلك الحين أعمال صيانة مؤقتة، لتستكمل أعمال الترميم واستبدال الأماكن الخشبية المتضررة، كما بيّن عبد ربه حجم الضرر الذي لحق بجدران الكنيسة جراء إطلاق النار الكثيف الذي تعرضت له الكنيسة شهر نيسان من العام 2002 خلال الاجتياح الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية وحصار الكنيسة الذي استمر لأربعين يوماً.
وأوضح عبد ربه بأن الانتهاء من أعمال المرحلة الأولى قد تم في آذار من العام 2015 وقد شملت بعض الأعمال المستعجلة حينها كترميم الجدران والقصارة الداخلية التي تم إزالة كل الترسبات عنها والفسيفساء والتي تقدّم العمل بها للضرورة.
أما عن المرحلة الثانية أشار عبد ربه خلال حديثه لمراسل قدس الإخبارية، بأنه جرى استبدال (الكحلة) الخارجية بكحلة طبيعية مماثلة للتي كانت عليه في العصور القديمة، كما تم إزالة كل مظاهر (العفن) التي أصابت الحجارة التي يزيد عمرها على 1500 عام نتيجة العوامل الطبيعية وجرى التعامل معها بعناية فائقة ثم تلا ذلك إجراء تمتين وتمكين للأحجار المتآكلة من خلال رش مادة خاصة وجرى في أحيان نادرة استبدال بعض الأحجار التالفة بأحجار مكافئة لها بالشكل واللون.
أبزر أعمال الترميم
أبرز أعمال الترميم طالت لوحات الفسيفساء القديمة تحدث عبد ربه لـ قدس الإخبارية، لقد تم تغطية كامل مساحة الكنيسة في العام 1169 بالفسيفساء حيث بلغت 2000 متر مربع أما الآن فلا يوجد سوى 125 متراً مربعاً فقط، ويُرجع عبد ربه أسباب ذلك إلى دخول المياه من السقف المتآكل والشبابيك والزلازل والحروب والصراعات التي دارت في المنطقة.
وأشار عبد ربه إلى صعوبة التعامل مع الفسيفساء التي كانت قد احترقت بفعل دخان الشموع حيث جرى دراسة وتحليل أكثر من مليون و550 ألف قطعة وتم بعد ذلك تحديد مناطق التدخل بحقن بعض الفجوات الصغيرة في حين تمت إزالة البعض الآخر وإعادة وضعها من جديد وتثبيت العديد من القطع فيما جرى لاحقاً تنظيف كل اللوحات الفسيفسائية.
وفي ذات السياق أوضح عبد ربه لمراسل قدس الإخبارية، أنه وخلال العمل في تنظيف الرواق الشمالي للكنيسة تم الكشف عن رسم فسيفسائي بمساحة بلغت مترين، وبيّن عبد ربه بأن الرسم الفسيفسائي هو للمَلك السابع في إحدى الاعتقادات الدينية المسيحية والذي يأتي استكمالاً لستة رسومات تمتد على طول الرواق الشمالي تتضمن رسوماً لستة ملائكة، إلا أن المَلَك السابع كان قد اختفت ملامحه بالكامل وتضررت بشكل كبير حيث تم إعادة تأهيل الفسيفساء من جديد.
وأكدّ عبد ربه أن كل مراحل الترميم والإضافات والتعديلات التي تمت لضمان إخراج الفسيفساء بأفضل حلّة تحافظ على المسافة التاريخية والمكانة والأهمية وقد وثّقت وفق المعايير العالمية المختصة.
ويجد المتابع للوحات الفسيفسائية الموجودة في أروقة الكنيسة والتي زاد بريقها وظهرت للعيان بشكل لم يكن ملاحظاً من قبل خليطاً من الأنماط والأشكال، فإلى جانب النمط البيزنطي الذي يحتل المساحة الأوسع من الرسومات فإن النمط الشرقي والإسلامي أحاط ببعضها على شكل إطار في تآلف جميل، وبيّن عبد ربه أن هذه الأنماط شكّلت تجانساً كما كانت تشكّله تلك الحقبة والمرحلة، فيما بيّنت أعمال التنظيف والترميم عن لوحات تضمنت تمثيلاً لأحد الشعانين وقصة توما وقرارات المجامع الكنسية باللغة اليونانية القديمة.
مدخل الكنيسة بحلّة جديدة
ويشير عبد ربه إلى أن الكنيسة تعرضت لزلزالين في الأعوام 1836 و 1927 ما تسبب بأضرار بليغة في العقد وجدران الكنيسة الرئيسة ما حدا بالانتداب البريطاني ومن قبله العثمانيين إلى إنشاء دعامات خشبية للسقف والعقد والتي استمرت حتى العام 2016، والتي كانت تحرم حتى العام الماضي المواطنين والزوار والحجاج من رؤية العقد والباب الخشبي للكنيسة كاملاً وأوضح عبد ربه أنه ومع دخول المرحلة الثالثة حيز التنفيذ فإن أعمال الترميم وصلت إلى مدخل الكنيسة والرواق الرئيسي.
وأشار لـ قدس الإخبارية إلى أن الباب الرئيسي للكنيسة لم يكن واضحاً منه سوى الجزء السفلي وأظهرت أعمال الترميم الأجزاء العلوية منه والتي أظهرت تناسقاً فنياً وكتابات عربية وأرمنية جاء من ضمنها وجود اتفاق وترميم عثماني موضحّاً باللغة العربية والسنة الهجرية التي جرى فيها تركيب الباب، كما تم ترميم بقية الأبواب الأربعة الحديدية للكنيسة والأديرة.
وأكد عبد ربه بأن المرحلة الحالية تشمل ترميم أعمدة الكنيسة البالغ عددها 50 عاموداً، والتركيز يجري على إزالة الترسبات مع العناية بكل التفاصيل الموجودة والمحافظة عليها قدر الإمكان، وبيّن عبد ربه بأن 13 عاموداً يحتوي على رسومات ظهرت خلال العمل ورموزاً غير واضحة يجري تحليلها ودراستها والوقوف على أهميتها.
والمرحلة الأخيرة فقد تحدث عنها عبد ربه لـ قدس الإخبارية، بأنها تشمل إنارة الكنيسة وإبراز الجماليات فيها والتي ستوضع على الأعمدة والرسومات الفسيفسائية وكذلك أجهزة إنذار الحريق، حيث يجري حالياً توريد الأجهزة والمعدات اللازمة من إيطاليا وهي في طريقها إلى الكنيسة.
وأشار إلى وجود خطة لاحقة لترميم الفسيفساء الأرضية الموجودة في أرضية الكنيسة الأولى التي بناها قسطنطين وجرى تدميرها على يد السامريين ولم يتبق منها إلا سجادة فسيفسائية تبدو واضحة اليوم للعيان وفسيفساء أخرى تحت الكنيسة سيجري العمل على إيجادها والتي يُعتقد بأنها تمثل ما مساحته ثلاثة أضعاف الفسيفساء الموجودة حالياً، ثم تُستكمل الخطة بترميم وتأهيل البلاط الأرضي في مراحل الترميم المتقدمة والأخيرة.
وأكّد عبد ربه لـ قدس الإخبارية، بأن أعمال الترميم قد تستمر إلى أواسط العام 2019 وأن الأمر مرتبط بتوفر الدعم والتمويل اللازم لاستكمال المشروع ، مشيراً إلى أن السلطة الفلسطينية تشكّل الداعم الأكبر لعملية الترميم إلى جانب عدد من الدول الأوروبية والفاتيكان، ودول إسلامية وعربية كتركيا والمغرب وشخصيات محلية ودولية وعدد من مؤسسات القطاع الخاص ورجال أعمال ومغتربين.