الماء والملح وخيم التضامن هي أضعف الإيمان، نعم هي أفضل من لا شيء، هي وسيلة لإبقاء صدى الموضوع مستمرا، وإبقاء حالة الشحن في الشارع، لكنها أضعف الإيمان، وليس من المتوقع أن تحدث تأثيرا مباشرا على "إسرائيل" لصالح الأسرى.
الوقت حرج والموقف صعب، وأهالي الأسرى في حيرة شديدة، فهم في حالة من التشويش وأصبحوا غير قادرين على تحديد الباب الذي يجب أن يطرق أو معرفة مفتاح الحل، تارة يقفون أمام الصليب الأحمر، وتارة أمام المقاطعة في رام الله، وتارة أمام ضريح ياسر عرفات!، كما أن السلطة الفلسطينية، ليس في جعبتها أي حل، ففي اللحظة التي وافق فيها ياسر عرفات على عقد اتفاق سلام مع "إسرائيل" بدون تبييض السجون، فهذا اعتراف ضمني من منظمة التحرير بأن آلاف المقاتلين في منظمة التحرير قبل أوسلو هم مجرمين وليسوا مقاتلين حرية مثل مقاتلي حرب التحرير الأمريكية أو الثورة الفرنسية أو الثوار الفيتناميين، وبناء عليه فإن السلطة فقدت أي قدرة على عمل أي شيء لصالح الأسرى منذ تلك اللحظة.
السلطة تعاني من إفلاس فكري، ليس في جعبتها أفكار، ولا حلول، ولو وجدت لا تستطيع تنفيذ أي شيء، اتفاق أوسلو ممسك بخناق السلطة ولا تستطيع التحرك، إلا إذا أرادت التخلص من قيود أوسلو والتضحية بامتيازاته الهزيلة، وكما يقول المثل: "لو بدها تمطر غيمت".
إذن التوجه للسلطة، واستجداء قيادات أجهزة أمنية قابعة تحت الكوندشنات على كراسي المكاتب المريحة، لن ينفع ولا يليق أصلاً، بالتالي انسوا أي باب من أبواب السلطة، وهذا بحد ذاته ضغط على السلطة، فمزاج السلطة مثل مزاج الضرة المكيودة، لا تريد المساعدة، لكن تغتاظ جداً من أن يتم تجاهلها تماماً والتوجه لجهات أخرى، في تلك اللحظة ستسعى بكل جهد أن تبين أنها صاحبة الكلمة والتأثير وأم الصبي، وأبو القضية، وأنها مهتمة وفاعلة ولا يجب تجاهلها!!!.
بالنسبة للمؤسسات الدولية والحقوقية وخاصة الدولية، فلنعرف أمرين عنهما، الأول أن هذه المؤسسات تحكمها بيروقراطية شديدة، وما تفعله بالعادة، هو كتابة تقارير، ترفع لمقراتها في الدول الغربية، إذا كانت هذه التقارير شديدة القوة، فإن مدراء هذه المؤسسات في الدول الغربية، يقومون برفع تقارير وبعض المطالبات الخجولة لمفوضية حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ولبرلمانات بعض الدول الأوروبية وبعض وزارات الخارجية، وقد يرفع برلماني أو وزير خارجية مذكرة استفسار أو مطالبة خجولة جدا لسفارة "إسرائيل" في بلاده.
بدورها فإن سفارة "إسرائيل" معتادة على مثل هذه المذكرات وعندها بنك من الردود الجاهزة، ولا تغلب نفسها لإيصال أي مطالبة أو مذكرة لوزير الخارجية الإسرائيلي أو رئاسة الوزراء، فهي تنهي الموضوع من عندها.
الأمر الثاني، هو أن هذه المؤسسات تعمل بتصاريح من الاحتلال، وتتقيد بكليشيهات في تقاريرها تميع من قوة أي قضية يكتبون عنها، فهم لا يعتبرون أسرى فلسطين أسرى حرب، ويستخدمون المصطلح الإسرائيلي، أسرى أمنيون في معظم الوقت.
لذلك، وبالرغم من أن الحراك أمام المؤسسات الحقوقية يساهم في نقل الصورة لدول العالم بطرق رسمية وشبه رسمية، وقد يصنع بعض التأثير الدبلوماسي، إلا أنه لا يتناسب مع سرعة الحدث، فهو بطيء التأثير، وضعيف التأثير، ولا يوجد علاقة كبيرة بين حجم الاعتصام أمام الصليب أو غيره وتأثير ذلك أمام المؤسسات الدولية، لكن طبيعة الحدث هي من تقرر حجم التأثير داخل المؤسسات الدولية، كما أن التجربة علمتنا أن الفائدة الحاصلة من هذه المؤسسات على الوضع على الأرض قليلة جداً، فالعالم سمع ورأى جرائم إسرائيل ولو كان ضغطه ذا فائدة كبيرة، لرأينا هذا وقت الحرب على غزة، ووقت محرقة عائلة الدوابشة، ووقت الإضرابات التاريخية السابقة! لذلك، لا يجب اقتصار الجهد على خيم التضامن والوقفات أمام المؤسسات الحقوقية. كما أن هذه المؤسسات سترفع التقرير بكل الأحوال.
ماذا عن شن هجمات على المستعمرين والجنود داخل الضفة الغربية؟ يجب هنا الاستفادة من التجارب السابقة ومعرفة عدة أمور، الأمر الأول أن استهداف المستعمرين الإسرائيليين داخل الضفة الغربية أسهل، لكن الحرج الواقع على عموم المجتمع أكبر، فإسرائيل تسوق هؤلاء حتى لو كانوا مسلحين على أنهم مدنيين أبرياء، أما بالنسبة لاستهداف جنود الاحتلال فهو مقاومة للاحتلال حسب القانون الدولي، لقد اعترف بهذا شلومو بن عامي، وزير خارجية الاحتلال السابق، في مقابلة مع "آمي غودمان" من سنوات، حيث قال لو أن شلومو بن عامي يخدم كجندي في الضفة الغربية، وقتل هناك، فإنه حسب القانون الدولي قوة محتلة تجوز مقاومتها وقتله لا يتعارض مع القانون الدولي.
بالرغم من ذلك، ومن تجارب سابقة، فأن تأثير هذا على الشارع الفلسطيني سلبي، فهذا سيؤدي في الغالب لوقف معظم الفعاليات الشعبية، وشعور الفلسطيني في الشارع أن المعركة خرجت من يده وأصبحت بين القوة العسكرية الإسرائيلية والخلايا المسلحة لحركات المقاومة في الضفة، وبالتالي انسحاب الفرد الفلسطيني من المعركة! وبالنظر لضعف البنية التحتية لخلايا المقاومة وضعف خبرتها وقلة تدريبها، فمن المرجح أن يتم الإمساك بها بعد عملية أمنية كبيرة، وهكذا تكون القضية تحولت من قضية الأسرى، لأزمة إغلاق الضفة الغربية ومطاردة خلية للمقاومة، وتنتهي هذه المعركة، باستشهاد أو اعتقال أفراد الخلية، وكل إضراب أسرى وأنتم بخير!!.
فماذا تبقى من مفاتيح أو أبواب لتطرق؟ والحقيقة أن صاحب الإرادة لن يعجز عن ابتداع طرق مؤثرة لتحصيل حقوقه، لكن لنستعرض هنا إستراتيجية سأسميها كي الوعي المضاد! ولكن قبل هذا لنستعرض هذا السيناريو:
لنفرض أن النشطاء أغلقوا شارع الإرسال في رام الله أو شارع عين سارة في الخليل أو دوار الحسين في نابلس!، ليتضامن باقي أهل الضفة الغربية مع الأسرى، وتضامن باقي أهل الضفة الغربية مع الأسرى، ونزل أهالي الخليل مع الجبل الـ700 ألف إلى الاعتصام، وأهالي رام الله عن بكرة أبيهم ملؤوا ميدان المنارة والساعة وكل وسط البلد، وأهالي نابلس أغلقوا ما بين الطورين! فكيف سيدفع هذا "إسرائيل" لتقديم أية تنازلات؟، أنت متضامن في داخل دارك وبعيد عن الاحتلال، والاحتلال لا يسمع ماذا تقول، ولا يريد أن يسمع! ماذا سيضير "إسرائيل" تجمع مئات الآلاف بعيد عنها؟ الضغط المباشر على مصالح "إسرائيل" داخل فلسطين هو الذي يغير موازين اللعبة! كما أن الشعب الفلسطيني داخل الجزء المحتل منذ عام 1948 يستطيع أن يدخل كلاعب مؤثر.
إستراتيجية كي الوعي المضاد مبنية على مسلمة في علم النفس، وهي أن ما يعتقد الخصم بأنه يؤثر فيك، هو يؤثر فيه أيضاً. قد لا يكون بنفس الطريقة، ولكن بشيء شبيه، عليك أن تجده.
إن خسارة "إسرائيل" لمصالحها بشكل مباشر، ودفعها لثمن كبير بسبب سياسة أو فعل معين، سيترك أثرا في الوعي داخل العقل الإسرائيلي، وكلما كان الثمن باهظاً، كان الأثر أكبر، وستحاول "إسرائيل" أن تتجنبه في المستقبل.
ما هي مصالح "إسرائيل" في الضفة الغربية؟ هناك مستوطنات ومعسكرات ومصانع، تربطها شبكة من الطرق، هي شرايين حياة الاحتلال في الضفة الغربية، كما تزود هذه المصالح شبكة من الكهرباء والمياه والاتصالات، هي عبارة عن أنابيب وكوابل وأعمدة تمر من خلال أراضي الضفة الغربية، تمتاز هذه الشبكات بأنها سهلة الاستهداف، فلا يمكن حماية شبكة من الطرق تمتد لآلاف الكيلومترات، أو حماية شبكة من الأنابيب أو الكوابل، بشكل كامل، كما أن هذا الشكل من المقاومة عليه إجماع دولي ولا يتعارض مع القانون الدولي.
إن إغلاق الطريق الالتفافي لمدة ساعة ابتداء من الساعة السابعة صباحاً في نقاط مختلفة في الضفة الغربية، سيرهق الاحتلال كثيراً، وليس على النشطاء عمل أية مواجهة مع الاحتلال، إغلاق الطريق بوسائل تحتاج لآلية أو وقت لإزالتها، والذهاب، وترك الاحتلال يخلع شوكه بأيديه، بالإضافة لقطع كابلات الكهرباء وخلع المواسير وتخريب المحابس.
ويمكن إتباع إستراتيجية علنية أخرى، من خلال الإعلان في مؤتمر صحفي كبير ينظمه لجنة من أهالي الأسرى والنشطاء وقيادات الفصائل (إذا خجلت وشعرت بأن عليها أن تشارك) عن نية عمل اعتصامات على الشوارع الالتفافية في نقاط مختلفة، في هذه الحالة ستكون التغطية الإعلامية ذات جدوى، لأنها تساعد على بقاء الاعتصام، وسيتسبب الاعتصام بخسارة مباشرة وضرر للاحتلال، ويجب التأكيد أمام وسائل الإعلام الأجنبية بأن الاعتصام يجري داخل الضفة الغربية، ويجب مخاطبة كل وسيلة بشكل منفصل ومتابعة من يحاول التضليل.
من المتوقع أن تحاول "إسرائيل" قمع الاعتصامات واستخدام الغاز وقد يسقط شهداء، لكن هذا يعني بأن الشوارع أغلقت ليوم كامل أو أكثر، ولا تتحمل "إسرائيل" الإغلاقات لكثير من الأيام، والمعركة مستمرة مع الاحتلال على كل حال!
المعركة يجب أن تتدحرج ويدخل فلسطينيو الجزء المحتل منذ عام 48 على خط الأحداث من خلال إغلاق الطرق الرئيسية خاصة في الصباح الباكر.
ويمكن إتباع إستراتيجية تصاعدية بإغلاق الطرق الرئيسية في الداخل لمدة ساعة كل يوم وزيادة وتيرة ووقت الإغلاق، كل هذا له تبعات كارثية على اقتصاد الاحتلال، وسيكوي الوعي الإسرائيلي.
لا يمكن الارتجال بشكل عشوائي، لكن يمكن الابتداء بحدث أو حدثين والتخطيط جيداً لرفع الوتيرة، ومن عنده رأي آخر فليدلُ بدلوه! لكن لا أرى أمل في أن تنصاع "إسرائيل" بدون أن تخاف من خسارة أكبر!.
يجب التنويه إلى أن إستراتيجية كي وعي مضاد شاملة، بحاجة لدراسة وتخطيط قبل البدء، ولكن هذا لا يعني الانتظار طويلا فالشوارع الالتفافية طويلة، وأعمدة الكهرباء في كل مكان ومواسير المياه كثيرة وممتدة!.