ثمة من يتغلب على قسوة الواقع الاجتماعي ويحاول أن يحقق وجوده الإنساني بطرق إيجابية كالمقاومة أو التعليم أو العمل الشريف، وثمة من ينهزم أمام هذا الواقع القاسي ويلجأ إلى أساليب غير شريفة ليحقق وجوده كالعمالة أو السرقة أو الخيانة في تخليه عن ملامح وجهه العربية ولكنته التي تفضح تجذره بأرض أعطته، فخانها وغدرها. في فلسطين، الجميع مروا من هنا.
لقد استخدمت المنظمات الصهيونية المسلحة أسوأ الوسائل الإجرامية في تهجير الفلسطينيين من اطلاق النار على السكان، إلى ارتكاب المذابح، إلى التمثيل بالجثث، إلى احراق الجثث. حتى خرج الفلسطيني باحثًا عن السلامة والأمان وهربًا من الموت المحقق. هذا الرعب والخوف جعل الكثير من الناس ينسون مفاتيحهم ويحملون بدلاً منها أبناءهم.
وفي المقابل، نجد أن الاحتلال الاسرائيلي هو ليس فقط استيلاء على الأراضي وإنما على الهوية والمخزون الثقافي والموروث حتى من العادات والتقاليد ويطمع للتمدد حتى يستولي ويمتلك كل ما هو فلسطيني.
إن الأداة الثقافية في فلسطين أصبحت من أهم أدوات المقاومة والتصدي للاحتلال، حيث تشمل الأداة الثقافية العديد من الوسائل والصور المختلفة.
وقد أدرك الاحتلال الاسرائيلي أن أدوات المقاومة لن تقتصر على المواجهة بالاشتباك عن طريق الرمي بالحجارة أو التفجير أو استخدام الرصاص، وانما المواجهة أصبحت بأدوات غير مباشرة بالأداة الثقافية عن طريق زيادة الوعي لدى الأهالي والتأكيد على فكرة التصدي ومقاومة العدو.
فما كان من قوات الاحتلال إلا التصدي لأي أداة تحاول الحث على فكرة المقاومة واحياء روح المواجهة بأي طريقة كانت، بما فيهم تلك التي فوق القانون.
ومع كل هذا، يرفض الشعب الفلسطيني تمامًا التخلي عن أي شيء يمس هويته وتاريخه وأرضه. ويطالب هذا الشعب كجماعة قومية بتعريف نفسه أنه شعب عربي فلسطيني أمام كل محفل، وأن نتاج ابداعه يمثل ذاتهم وهويتهم وتاريخهم وما يورثونه لشعبهم وللثقافة الإنسانية عمومًا.
من هنا يمكن استنباط أن المقاومة الفلسطينية ليست منحسره في الدفاع عن الأراضي والممتلكات الفلسطينية فقط وانما في الدفاع عن الأعمال الثقافية والفنيه (كل ما هو فلسطيني) حتى وان اختلفت طبيعة الأفراد القائمين بالمقاومة إلا أنهم في النهاية فلسطينيين.
ومع تفاقم الأوضاع وتطوراتها الدراماتيكية شهدت الثقافة الفلسطينية ميلاد شعراء وكتاب جدد، فكتب "جبرا ابراهيم جبرا" رواياته عن المنفيين ومعاناتهم، وكتب "غسان كنفاني" عن صراع الفلسطينيين في الشتات من أجل لقمة العيش وعن بهاء الفدائيين وروعة بطولاتهم، وظهر جيل جديد من الشعراء الملهمين في الوطن المحتل وفي الشتات مثل محمود درويش، وتوفيق زيادة، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، وعز الدين المناصرة، ومحمد حسيب القاضي، وغيرهم. ليغنوا أشعارًا لم تلهب مشاعر من اكتوى بنار الاحتلال فحسب، بل لامست شغاف الملايين من التواقين للحرية في العالم، وكان وقع هذه القصائد أشد تأثيرًا حين غناها كل من مارسيل خليفة، وخالد الهبر، وأحمد قعبور، وسميح شقير، وسواه. فرددها الكثيرون، وحفظها المقفون والعامة على حد سواء.
وقد أخذ الروائيون الفلسطينيون يعكفون على رسم خريطة أرضهم بالأحداث والرجال، وملامح الطبيعة الثابتة حتى الشجرة والتل والنبع والتربة الحمراء والنباتات الجراحية، ما بين أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وما حولهما، ولم تهمل الروايات بقعة واحدة أو مدينة مهما كان حجمها أو أهميتها، وذلك في محاولة للوقوف في وجه الممارسات الاسرائيلية التي تسعى لفرض سياسة التجهيل، وقطع جذور الإنسان الفلسطينية بأرضه، والعمل على تثبيت ملامح الأرض والمكان حتى تبقى حية في الذاكرة.
حكت العديد من الكتب عن فلسطين لأبنائها المحرومين منها، تحدثت عنها وعن عاداتها وأهلها وشكل الأعراس، الأغاني، البيوت، وبحر حيفا. حكت، وصفت، وأبدعت في وصف العلاقات. العلاقات بين الناس وبعضها، والعلاقة بين الناس وبيوتهم وبحرهم وأشجار الزيتون. حكت عن مفتاح الدار!
الصور، الأغاني، الروايات، القصص، الجرافيتي، الرقص، المزيكا، السينما، المراسلين، الرحالة، القادرين على الحكي والغناء هم الذين يحملون المقاومة بين ضلوعهم، يحملون الثقافة التي تواجه العدوان. فعرفنا هؤلاء وعرفنا حكايتهم. هنا تكمن عظمة الأدب الذي يمثل نوع من المقاومة.
فلسطين مستمرة بسبب هؤلاء الذين مازالوا يغزلون الثوب الفلسطيني، ويرتلون الأغاني الشعبية في الأعراس، ويتمسكون بالمسرح والشعر.
هذه الحقيقة المستجدة بأكثر من شكل ولون ولغة هي مرجع لثلاثة أجيال مكتملين، وجيل آخر "جيل الأحفاد" تركت لهم نهاية الصفحات ليحملوا القضية، ويبحثوا عن طريق جديد في حق العودة.
*اللوحة للفنان التشكيلي الفلسطيني اسماعيل شموط.