فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: مواجهات عنيفة، عمليات استشهادية وتفجير مطاعم وحافلات في عمق الكيان، آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينين وما يزيد عن ألف من القتلى الصهاينة، إغلاقات وحواجز، إضرابات، اقتحامات، اعتقالات، اغتيالات، وإطلاق صواريخ فلسطينية لأول مرة باتجاه مستوطنات الاحتلال الإسرائيلي ... كل هذه الملامح لانتفاضة الأقصى، التي اندلعت عام 2000، لم يغب انعكاسها على الحياة الطلابية في الجامعات الفلسطينية؛ بل كانت الجامعات بحراكها الطلابي من العوامل الأساسية الُمحرِكة لزيادة شعلة الانتفاضة، وضخ مشاعر الثورة والمقاومة في نفوس الطلبة الجامعيين.
الطريق من وإلى الجامعة
"بسؤالكِ عن أيام الانتفاضة نبشتِ ذكرياتٍ في عقلي كنت أظنها منسية؛ لكنها أيام لا تنسى!"، بهذه العبارة بدأت مها صبري 35 عاماً، من مدينة قلقيلية، تسرد لمراسلتنا ذكريات دراستها في جامعة النجاح خلال الانتفاضة الثانية، "عندما اندلعت الانتفاضة، كنت ما أزال في السنة الأولى، وفور اندلاعها أغلقت جامعة النجاح أبوابها لشهر ونصف. أذكر تقرير الجزيرة الذي بثته عن الجامعة ووصفتها فيها أنها (تحولت لمدينة أشباح)"، وتكمل صبري، "بعد ذلك أُصدر قرارٌ باستئناف الدوام، عدنا للدوام، ما أسهل الكلمة وما أصعب تنفيذها!".
في تلك الأيام كانت قوات الاحتلال تقطع أوصال القرى والمدن الفلسطينية بإغلاق كل الطرق، ما يجعل إمكانية الخروج صعبة بل مستحيلة في أغلب الأحيان، ولم يكن حال مدينة مها، قلقيلية، ليختلف كثيراً عن باقي المدن والقرى الفلسطينية، "في البداية، تمكنت بصعوبة بالغة من إيجاد مخرج للذهاب للجامعة، سلكت طريق"بير الشركة" وهو منفذ من داخل البيارات يؤدي بك إلى خارج قلقيلية يقع اليوم عند المدخل الرئيسي، بعد ذلك، اضطررت للسكن في نابلس؛ لأن الخروج يومياً كان محفوفاً بالمخاطر ومكلفاً بسبب استغلال سائقي الأجرة للوضع، كانت حياتي تتأرجح بين مواصلات أو سكن ولم يكن أي الخيارين أفضل من الآخر، كان الخروج للجامعة يحتاج يوماً سابقاً من التخطيط، إيجاد سيارة تقلنا للجامعة، ومجموعة من الطلاب ليخرجوا معي، وتجهيز مبلغ من المال للحالات الطارئة".
تتابع صبري حديثها، "ساءت الطرق أكثر مع قدوم الشتاء، وخصوصاً أنها لم تكن طرقاً بالمعني المُتخيل؛ بل كانت فتحات جانبية بتربة إما طينية أو تربة(حِوّر)-كما يسمونها- كنا نضطر للخروج من المنزل الساعة الخامسة صباحاً قبل شروق الشمس؛ حتى نتجنب أكبر قدر من الحواجز–كنّا نعتقد ذلك- . في السنوات اللاحقة، ساءت الأوضاع أكثر فاضطررت للعودة للسكن في نابلس، وكنت أرجع لبيتي مرة في الشهر-إن سمح الوضع بذلك-، في ذلك الوقت ظهر ما عُرف بخدمة نقل الأمتعة على الدواب، وكان الطالب الذي يجد من يحمل أمتعته على دابة محظوظاً جداً، ندفع لصاحب الدابة ونمشي خلفه في الجبال... تسلقنا الجبال بين صرة وجيت، وبين قوصين ونابلس، وبين بيت إيبا ودير شرف ومشينا حتى وصلنا اجنسينا! وكان لنا سير طويل في جبال تل وبورين".
ورغم كل هذه التضييقات لم تكن مها وغيرها ممن يسلكون هذه الطرق يسلمون من مطاردات جيش الاحتلال لهم، "في أحد المرات، كان مفرق"جيت" مغلقاً، ولم نستطع أن نمر، بقينا على الحاجز من العصر حتى العشاء، فقررنا المشي بين الجبال فتبعنا الجيش وبدأ بإطلاق النار، كان الرصاص يمر من تحت أرجلنا ونحن نركض، حتى وصلنا المخفية في نابلس...هل تخيلتِ المسافة التي مشيناها؟!"، تسأل صبري وتكمل" حتى عندما ننزل في العبّارات التي تحت الطرق يتبعنا الجيش بالرصاص وقنابل الغاز!".
على كل شبر من طريق قلقيلية نابلس وجباله، تركت مها أثرا لخطواتها محاولة تارة الوصول للجامعة وتارة العودة لمنزلها، وتقول: "عندما أذهب لنابلس أتذكر كل هذه الأيام ...بقيت من عام 2000إلى عام 2004 على هذا المنوال"، أردفت مها.
في الجامعة
كان الحراك الطلابي في الجامعات الفلسطينية وقتها على أشده. الدكتور فريد أبو ضهير،المحاضر في كلية الإعلام بجامعة النجاح والذي عاين أحداث الانتفاضة في الجامعة عن كثب خلال تدريسه فيها، يقول إنه خلال فترة الانتفاضة تبين أن عدداً كبيراً من الطلاب كانوا مشاركين في الانتفاضة سواء على الصعيد الشعبي أم المسلح ضد الاحتلال، وكان هؤلاء الطلبة معروفين في الجامعة بحراكهم ونشاطهم أمثال: قيس عدوان ومحمد الحنبلي وغيرهم". ويضيف أبو ضهير أن الجامعة وقتها كانت تشهد احتفالات ومهرجانات وتأبينات للشهداء، وكانت هذه الأعمال تلقى تفاعلاً من الطلبة، فضلاً عن اليافطات التي تعلق في كليات الجامعة وساحاتها".
أما مها فتقول: "إن الوضع في الجامعة كان مشحوناً ومتوتراً باستمرار، كثيراً ما كان يتم تعليق الدوام، في كل يوم يرتقي شهداء، ثم تأبين وشعارات من كل الفصائل بالساحة الرئيسية في الحرم القديم، وكان الطلاب ينظمون مسيرات باتجاه الحواجز القريبة ومظاهرات أخرى كثيرة باتجاه قبر يوسف ثم تتحول المسيرات والمظاهرات إلى تراشق بالحجارة من جهة الطلاب وبالقنابل من جهة الجيش!".
"على صعيد التدريس واجهتنا مشاكل كثيرة بهذا الصدد، من ضمنها وأبرزها: الحواجز، وصعوبة وصول المدّرسين والطلاب للجامعة، غيابات متكررة، عدم انتظام الطلبة في تأدية الامتحانات"،ويردف د.فريد،"بعض الطلبة كانوا مطاردين ومطلوبين، أذكر أن طالباً اسمه (يامن) قدّم امتحانه النهائي وبعد أيام قليلة استشهد، طلاب آخرون اعتقلوا مثل باسم خندقجي وغيره".
متى الامتحان؟
وتشير مها إلى أن أكثر شيء افتقدته في تلك الأيام كان الهدوء والاستقرار، وتقول: "كنت أدرس للامتحان ولا أعرف متى سأقدمه!"، وتكمل، "أذكر حين حاصروا مقر الرئيس ياسر عرفات عام 2002، كانت فترة امتحانات وبقي لدي امتحان واحد، طالت التأجيلات وحتى لا تضيع سنيننا الجامعية، قامت جامعة القدس المفتوحة بفتح أبوابها لنا، فقدمنا امتحاناتنا وخصصت لنا فصلاُ صيفياً أيضا!".
كيف كنتم تتعاملون مع هذه الأوضاع في الجامعة؟، أجاب أبو ضهير: "لقد شكّل الموضوع بالنسبة لنا تحدياً بأنه يجب أن نجتاز هذا الاختبار، فرتبنا امتحانات غير مكتملة لمرة ومرتين وثلاثة للمساق نفسه، وحاولنا ضبط الوضع قدر المستطاع".
تروي لنا مها حكاية كل ليلة وقت النوم، "كنت وزميلاتي نرتدي حجابنا الكامل قبل أن ننام خيفة اقتحام السكن في أي لحظة!من قبل جنود الاحتلال"، وأضافت، "استشهد أناس نعرفهم، كان اليوم الأكثر رعباً وحزناً عندما وصلت إخبارية للجيش من أحد الجواسيس عن وجود أحد المطاردين في سكن بمنطقة المخفية، لا أذكر اسم الشاب بالضبط، ولكن الجيش حاصروا المبنى وقتها وجمعوا كل الشباب في الطابق السفلي وقصفوا الطابق الذي كان يختبأ فيه الشاب... استشهد الشاب وأصيب عدد من الشباب الآخرين، كما يوجد شرفاء في هذا الوطن يوجد من يخون!".
هل يتكرر جيل الانتفاضة الثانية؟
"حالة المواجهة المستمرة على مدار الساعة في الانتفاضة الثانية والاجتياحات، كل ذلك انعكس على الوضع النفسي للنا" أجاب أبو ضهير ، وتابع، "هذا الضغط رُفع اليوم عن رؤوس الناس، وأصبح الاهتمام بقضايا مادية وحياتية وترويحية أكثر من القضايا الوطنية". أما مها فأجابت: "طبعاً الأجواء السياسية والأمنية تفرض نوعاً من الجدية عند الناس، أجيال اليوم ما بعرف شو جاريلها!، ممكن غياب دور الأهل كان له دور في خروج هكذا أجيال لا مبالية ..قلوبها قاسية!".