"الدولة الواحدة" وأكثر من معنى
فكرة "الدولة الواحدة" ليست شيئا واحدا؛ ذلك ما ينبغي قوله بداية لفك الالتباس، وحلّ شيء من تعقيد المقترحات والشعارات التي لاحقت القضية الفلسطينية بهدف حلّها، إذ تكفي الإشارة -لبيان كثافة الالتباس- إلى أن هذا الشعار (من جهة اللفظ) هو ما ينادي به اليوم فريق من اليمين الإسرائيلي، بينما كان يوما شعار الثورة الفلسطينية في مطلعها قبل أن تتبنى بدلا منه مشروع "السلطة الوطنية".
المؤكد أن هناك اختلافا في المعاني والمقاصد بين كل من الفلسطينيين الذين رفعوا هذا الشعار في مطلع ثورتهم، وبعض أجنحة اليمين الإسرائيلي الذين يرفعونه اليوم؛ فالدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية -التي نادت بها الثورة الفلسطينية المعاصرة حينا من الدهر- لم تكن أبدا تعني إخضاع ما بين النهر والبحر للسيادة الإسرائيلية، كما هي رؤية هذا الفريق من اليمين الإسرائيلي.
""الدولة الواحدة" لدى الفلسطينيين الذين رفعوا هذا الشعار، ولدى أنصارهم ممن حاولوا اقتراح مقاربات أخرى سوى حل الدولتين، كانت تعني واحدة من صيغتين: إما صيغة الاندماج الكامل في دولة واحدة على أساس المواطنة بجهاز دولة واحد يستغرق مواطنيها كافة، أو دولة ثنائية القومية تقوم على معادلة وسطى بين الفصل والاندماج"
وإذن علينا أن نفكر جيدا فيما قاله دونالد ترمب-في لقائه الأخير مع بنيامين نتنياهو بواشنطن- عن تفضيله ما يتفق عليه طرفا الصراع، سواء أكان حل الدولتين أم حل الدولة الواحدة، إذ ما ينبغي التفكير فيه هو ما إن كان ترمب يعني ما يقوله فعلا؟ ثم ما الذي يعنيه بالضبط؟
من المحتمل جدا أن ترمب لم يكن يعني في ما قاله أكثر من أن إدارته لن تنطلق من فكرة قائمة سلفا، ولن تنتهج فرض هذه الفكرة على طرفي الصراع، ولأنه كان يغازل "إسرائيل" فإنه ساعتها كان يقصد تحديدا أن إدارته لن تمارس الضغوط التي مارستها إدارات سابقة على "إسرائيل".
بكلمة أخرى؛ من الوارد أن ترمب لم يكن يقصد معنى محددا لجملة "الدولة الواحدة" التي تعثر بها لسانه، نظرا إلى ارتجاليته وتقلباته بخصوص "إسرائيل" وصراعها مع العرب والفلسطينيين، والحوادث المتكررة التي تفيد بجهله لأعقد الموضوعات التي يتصدى لها، فمثلا تكشف أخيرا -أثناء محادثته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- جهله بمعاهدة ستارت بين البلدين للحد من الأسلحة الإستراتيجية.
هذا لا يعني أن نتنياهو لم يتحدث لاحقا مع ترمب بخصوص الرؤية الإسرائيلية الممكنة للحل، أو بخصوص ما سربه الوزير الإسرائيلي أيوب قرا عن مقترح السيسي بإقامة الدولة الفلسطينية على غزة وأجزاء من سيناء، أو بخصوص البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، أو بخصوص صفقة إقليمية شاملة؛ ولكن المهم هو الرؤية الإسرائيلية نفسها، فـ"إسرائيل" هي التي لم تزل تفرض الوقائع على الأرض، وإدارة ترمب -بتصريحات هذا الأخير- أقرب إلى رفع اليد منها إلى فرض رؤية محددة.
"الدولة الواحدة" لدى الفلسطينيين الذين رفعوا هذا الشعار، ولدى أنصارهم ممن حاولوا اقتراح مقاربات أخرى سوى حل الدولتين، كانت تعني واحدة من صيغتين: إما صيغة الاندماج الكامل في دولة واحدة على أساس المواطنة بجهاز دولة واحد يستغرق مواطنيها كافة.
أو دولة ثنائية القومية تقوم على معادلة وسطى بين الفصل والاندماج، يحتفظ فيها كل من الطرفين بقوميته وبأجهزة إدارة منفصلة إلى جانب جهاز دولة مشترك؛ ولكن أيا من هاتين الصيغتين لا يمكن أن يحضر أبدا في المخيال الإسرائيلي، ولا بد أن ترمب لم يقصد أيضا أيا منهما.
صحيح أن مقترحات الفلسطينيين -التي ظلت تتسم بالتنازل- لم تكن تخلو من دوافع أيديولوجية، ولكن الدافع البراغماتي الخاضع لموازين القوى المختلة، والناجم عن مجريات الصراع والظروف الإقليمية والدولية التي لم تكن في صالحهم، كان هو المحرك الدائم لمقترحاتهم التي تطورت من مشروع التحرير ذي الطابع القومي، إلى مقترح الدولة الواحدة، فالحل المرحلي، فحل الدولتين.
يضاف إلى ذلك العامل الذاتي المتعلق بطبيعة القيادة المتنفذة التي تصدرت قيادة الحركة الوطنية، وماهت بين الهوية الفلسطينية والكيانية الفلسطينية، وهيمن عليها هاجس التمثيل، ثم استدخلت فكرة الدولة على المشروع الوطني، ليبدو الأمر وكأنها تريد أي دولة حتى ولو كانت فكرة الدولة على حساب التحرير.
أما إسرائيليا، وبالرغم من حضور فكرة الدولة الثنائية القومية في التداول الإسرائيلي حتى ما قبل هزيمة العرب عام 1967، ثم عودتها بين فترة وأخرى للتداول في أوساط أكاديمية وهوامش سياسية؛ فإن ثمة أرضية واحدة وقفت عليها القوى الإسرائيلية الكبرى، وانبثقت عنها الوقائع التي فرضتها "إسرائيل" على الأرض، فيما يشبه الرؤية الواحدة.
قاعدة التفكير الإسرائيلي كانت الضفة الغربية دائما في جوهر المقولة الأيديولوجية الصهيونية، التي جعلتها دُرّة "أرض التوراة"، وبلاد "يهودا والسامرة"، وحاضنة "أورشليم"، بيد أن الضفة الغربية -على أهمية هذا الاعتبار الذي قامت عليه أساسا "إسرائيل"- كانت ضرورة إستراتيجية قصوى لدولة تعاني من أزمة وجودية في محيط مُعادٍ.
تفتقر "إسرائيل" إلى العمق الإستراتيجي الجغرافي الذي لا يمكن تعويضه بالتفوق التكنولوجي، وقد حلت هذه المعضلة في جبهتها الغربية بتحييد سيناء وفق معاهدة السلام التي وقعتها مع مصر، بينما كانت السيطرة على الحدود الغربية لنهر الأردن وعدد من مرتفعات الضفة الغربية، السبيلَ الوحيد لتأمين عمق إستراتيجي يكبح أي هجوم من الجبهة الشرقية.
"نتنياهو رفض -حسب ما كشفته صحيفة هآرتس أخيرا- مبادرة أميركية لإقامة دولة فلسطينية، قدمها وزير الخارجية السابق جون كيري في اجتماع سري ضمه قبل نحو عام في العقبة مع نتنياهو والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني، رغم أنها تضمن اعترافا بيهودية "إسرائيل"، ونزعا لسلاح الدولة الفلسطينية"
شكّل هذا التصور القاعدة المشتركة للقوى السياسية الإسرائيلية الكبرى، ابتداءً من خطة إيغال آلون في عام 1967 التي عملت بموجبها حكومات حزب العمل. وقد أوصت هذه الخطة بالسيطرة على غور الأردن، والسفوح الشرقية لمرتفعات الضفة الغربية، وعدد من المرتفعات في الخليل والقدس، وإحاطة الضفة الغربية بـ"إسرائيل"، بما يضمن لـ"إسرائيل" قدرة إستراتيجية للدفاع عن نفسها.
بعد ذلك، تكاثرت الخطط والمشاريع الاستيطانية نظريا وعمليا، بيد أن الحد الأدنى المتمثل في خطة آلون، كان يفضي بالضرورة إلى عزل الدولة الفلسطينية المقترحة في الضفة الغربية، وحرمانها من التواصل الخارجي الطبيعي بل والداخلي الطبيعي، واختراقها بالمستوطنات الإسرائيلية الكبرى.
لم تعد خطة آلون هي الصيغة النهائية للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، إذ تكاثرت المستوطنات بعد ذلك وتحولت إلى مدن كبرى تربط بينها شبكة طرق واسعة، وعلى النحو الذي يسد الثغرات الإستراتيجية، ويغطي العمق المطلوب إستراتيجياً في حدود الجغرافيا المتاحة، ويخلق قطاعا استيطانيا متصلا ومتواصلا على ناحيتيْ الخط الأخضر.
بهذا يتبين أن ثمة حدا أدنى يفرض وجودا إسرائيليا في قلب الضفة الغربية وفي محيطها من أراضيها، بما يجعل أي دولة تقوم فيها عسيرة الحياة، ومع النمو الاستيطاني الكثيف، وصعود اليمين الصهيوني الذي ينادي بـ"أرض إسرائيل الكاملة"؛ صارت إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية مستحيلة من الناحية الفعلية.
بهذا أخذت الرؤية اليمينية تتبلور، إلى درجة أن نتنياهو -حسب ما كشفته صحيفة هآرتس أخيرا- رفض مبادرة أميركية لإقامة دولة فلسطينية، قدمها وزير الخارجية السابق جون كيري في اجتماع سري ضمه قبل نحو عام في العقبة مع نتنياهو والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني، رغم أنها تضمن اعترافا بيهودية "إسرائيل"، ونزعا لسلاح الدولة الفلسطينية، ووجودا إسرائيليا في الضفة الغربية على أساس تبادل الأراضي.
ومع أنه لا يمكن الزعم بوجود إجماع يميني على الصيغة النهائية لهذه الرؤية، فإن خطوطها العريضة -حسب البناء الاستيطاني والمسار السياسي الإسرائيلي الجاري- تنصّ على ضم الضفة الغربية لـ"إسرائيل"، مع اختلافات في التفاصيل حول مصير سكانها من الفلسطينيين.
سيناريوهات متداولة
الكونفدرالية مع الأردن، أو تحويل التجمعات الفلسطينية إلى كانتونات معزولة عن بعضها بإدارات محلية مجردة من التمثيل السياسي، أو ضم السكان بحقوق مدنية دون سياسية مع الحفاظ على أغلبية يهودية بنسبة 70٪، أو إقامة دولة فلسطينية ناقصة في الضفة بحسب تعبير نتنياهو؛ هذه هي أبرز الأفكار التي تعالج مصير سكان الضفة الغربية، بعد ضمها لـ"إسرائيل".
من المرجح أن ينتهي مشروع الضم -في حال كُتب له النجاح- بتكريس تجمعات السكان الفلسطينيين في الضفة على شكل كانتونات منفصلة عن بعضها، كما هو واضح من نمط الهندسة الاستيطانية القائمة، ومعزولة عن العالم الخارجي، ومخنوقة دون أن تتوفر على مقومات تنموية، بإدارات محلية تفتقر إلى التمثيل السياسي، وبالتالي طاردة للسكان وباعثة على الهجرة إلى الخارج.
"الحراك السياسي الجاري -منذ فوز ترمب- يعزز الاعتقاد بأن المشروع الإسرائيلي يجري تسويقه الآن لدى الإدارة الأميركية بطرح صفقة إقليمية شاملة، تقوم بدمج "إسرائيل" في محور إقليمي للتصدي لإيران، مقابل إنجاز الرؤية الإسرائيلية لتسوية الصراع"
في هذه الحالة، لن تمانع "إسرائيل" في منح الفلسطينيين دولة منزوعة السلاح في غزة، تتوسع غربا في سيناء -باتفاق مع مصر- مما يخلصها أولا من الكثافة السكانية في غزة، وينهي ثانيا معضلة اللاجئين الفلسطينيين بتوطينهم في سيناء، وثمة مؤشرات تتكثف -منذ فوز عبد الفتاح السيسي بالرئاسة في مصر- على جدية هذا الطرح الذي سبق للرئيس الفلسطيني محمود عباس أن تحدث عنه وعن رفضه له عدة مرات.
الحراك السياسي الجاري -منذ فوز ترمب- يعزز الاعتقاد بأن المشروع الإسرائيلي يجري تسويقه الآن لدى الإدارة الأميركية بطرح صفقة إقليمية شاملة، تقوم بدمج "إسرائيل" في محور إقليمي للتصدي لإيران، مقابل إنجاز الرؤية الإسرائيلية لتسوية الصراع.
من غير المتوقع أن توافق القوى الفلسطينية الرئيسة على هذه الخطة، ولكن في المقابل ستخضع قيادة السلطة الفلسطينية لضغوط إسرائيلية وعربية، بالتوازي مع استمرار العمل على إحلال قيادة فلسطينية بديلة أكثر تفاهما مع الإسرائيليين وحلفائهم العرب المفترضين على هذا المشروع. ومن الممكن أن يعاد تصوير الفكرة على نحو مضلل من بوابة "الدولة الواحدة"، التي تحمل لدى اليمين الإسرائيلي معنى آخر مختلفا تماما عن معناها لدى الفلسطينيين.
أما حركة حماس المحاصرة في قطاع غزة، فستتعرض لعملية ابتزاز وترهيب ضخمة لاسيما في حال تشكّل المحور الإقليمي الذي يضم "إسرائيل"، وبالتوازي سيكون المدخل لاستدراجها، وفي واحدة من خطوات إنفاذ المشروع المتدرجة، اقتراح هدنة طويلة تفضي إلى دولة مؤقتة في غزة وربما أجزاء من سيناء، دون اشتراط اعتراف حماس بـ"إسرائيل".
هذا في حال كُتب لهذه الرؤية النجاح، ولكن المؤكد أن حل الدولتين صار في حكم الميت، وهو مآل ساهمت قيادة حركة فتح في الوصول إليه، ابتداء من تقديم مشروع الدولة على مشروع التحرير، والذي عُدّ في زمن ثوري فلسطيني ماضٍ حلا تصفويا، ومرورا بالاعتراف بـ"إسرائيل"، ثم تدمير قدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة في الضفة الغربية.
لا يمكن القول -إزاء ذلك، وضمن موازين القوى الراهنة- بأن الخيارات الفلسطينية سهلة، ولكنها قائمة وتتطلب إرادة لدى قيادة السلطة الفلسطينية التي لم يكن تهديدها بوقف التنسيق الأمني هو أدنى ما قالته، ولا تهديدها بسحب الاعتراف بـ"إسرائيل" هو أعلى ما هددت به، ولكنها لم تنفذ أبدا حتى ما هو دون تلك التهديدات.
تستطيع السلطة -إن امتلكت الإرادة- أن تكون فاعلا إيجابيا باجتراح خيارات وسطى، منها السماح بتمدد مقاومة شعبية جادة ومؤثرة في الضفة الغربية، وتعزيز صمود الفلسطينيين في قطاع غزة، والاتفاق مع حماس على إدارة مشتركة للتحدي القادم، ولكنها غالبا ستسعى كعادتها للتكيف مع الوقائع الجديدة الناجمة عن السلوك الإسرائيلي وعن التحولات المحتملة في الإقليم والعالم.