"القمع" هو حالة استنفار قصوى تمارس فيها إدارة السجن كل حقدها، عبر رش الغاز الخانق في غرف لا تتعدى مساحتها العشر امتار، وبعد دقائق تفتح قوات القمع في سجون الاحتلال أبواب الغرف السجن وينهالون على الأسرى - المخنوقين بالغاز - بالضرب بالهراوات والارجل، قبل أن يتم تقييد أيديهم ودفعهم للخارج.
إدارة سجون الاحتلال تخصص وحدات مدججة تتخصص بتنفيذ عمليات قمعية بحق الأسرى، تبدأ بالاعتداء عليهم وتنتهي باقتحام غرفهم وتخريب محتوياتها واتلافها ومصادرة بعض منها.
عمليات القمع هي خطط ممنهجة تحاول إدارة سجون الاحتلال من خلالها تحقيق الهدف الأول للسجن كمفهوم فلسفي اكبر من كونه مكان عقابي، متمثلا بافراغ المحتوى النضالي للأسير الفلسطيني وكسر ارادة التحدي والصمود ومقاومة الاحتلال من أجل تحويله من بطل إلى ضحية ينتظر الرحمة من عدوه ويندم على نضاله ومقاومته للاحتلال .
فعندما تذكر الاحتلال خبر عن " قمع الأسرى" كخبر سريع مقتضب لا يقف عندها المستمع ولا يفكر فيها بل يكتفي في أفضل الأحوال بأن يدعوا ربه أن يلطف بالأسرى ويفرج كربهم، هذا إذا تفاعل أصلا، ولكنه لا يبحر بما يوازي الكلمة في الخبر لما يترجمها على الأرض، لا يتخيل الألم الروحي الذي تخلقه "القمعة" في نفوس لم دخلت السجون إلا من أجل كرامتها، ولا يتصور سامع الخبر العابر عن قمعة سجن ما، حجم الاهانة التي تلقاها من يقمعون.
إن القمع والتنكيل والإذلال الممارس بحق الأسرى لا يمكن وقفه، لأن المنظومة التي تمارسه ترتكز على تلك الفلسفة العنصرية والسادية التي ترى في الأسير طليعة شعبه المناضلة، وبالتالي فهي تعمل جاهدة لتحويل قوة مثال الأسير إلي عكسها، و تسقط عنه اجتماعيا هالة البطولة ورمزيتها وتسعى لتحويله إلى ضحية نادمة.
وليس غريب أن نسمع بين الحين والآخر أن أحد السجون تم قمعه وأن أحد الأسرى تم عزله أو الاعتداء عليه وإهانته، كما إن كافة الاجراءات الاعتقالية تصبّ في ذات البوتقة، فإدارة السجون أحد أذرع الاحتلال التخصصية التي تمارس وظيفة الاحتلال البشعة في مكان آخر هو السجن.
ويقوم الاحتلال بحق السجانين بكل مفاهيم ونظريات الكره والعنصرية، ويعزز لديهم ممارسة الاذلال والترهيب، كما يتم هندسة السجون بشكلها ومبانيها، وكل تفاصيلها بما يخدم ذات الهدف النفسي الذي يوحي أن الاحتلال بقوته قادر على ممارسة ما يحلو له، بينما الأسير مجرد "مفعول به" لا يؤثر بمجرى الزحداث لحين استنفاذ كل طاقاته وكسر ارادته وصموده.
إلا أن الأسرى أدركوا تلك السياسة منذ البداية فخلقوا لهم جسما قويا قادرا على المواجهة المفروضة عليهم والتي تختلف أشكالها وتتفق مضامينها ضمن معادلة النضال من أجل الحرية.
واستمر قتال الأسرى من أجل الحفاظ على الهوية النضالية ومراكمة الخبرات والإنجازات بتحديات وصير لا يوازيه إلا صبر ذويهم على فراقهم.
كما ابتدع الأسرى وسائل وأشكال نضالهم ولم يستكينوا ويصبحوا مجرد متلقين لسياسات السجان، فمن الامتناع عن العدد إلى ارجاع وجبات الطعام المحددة إلى الاضرابات الجزئية والعامة الطويلة عن الطعام، حتى القرار بضرب إحد الضباط والسجانين، كلها إساليب ابتدعها الاسرى في معركتهم الطويلة وهم يدركون عواقب كل خطوة، ويعرفون متى استخدام هذه وتاخير تلك من الخطوات، ومتى يقفون للدفاع ومتى يهجمون.
الحركة الأسيرة الفلسطينية قوة يحسب لها الاحتلال ألف حساب، خاصة إذا دعمها الشارع الفلسطيني خارج أسوار الأسر، ولأن أذرع الاحتلال ومؤسساته تعمل كجسم استعماري متكامل أدرك أن الانقضاض على الأسرى وتحقيق أهدافه بضربهم يسهل، اذا ما تم تحييد الشارع وفصل عراه الوجدانية عن قيتهم ، الأمر الذي نلاحظه دوما في توقيت قمعهم وسحب إنجازاتهم والاستفراد بهم عندما ينصرف الشارع الفلسطيني لقضايا بعيدة كل البعد عن قضاياه الوطنية العامة وتحديدا قضية الأسرى.