في عام 1927 وفي البيت الملاصق لجدار بيتنا الذي لم يكن قد بني بعد، صوت صراخ يعبئ المكان، روح ستخرج للحياة،لم تكن تعلم والدته أنه سيغير مجرى التاريخ.
بكاء طفل عادي، و جسم صغير، حظي باسم "سعيد"، لربما اسمه لم يكن ينطبق مع تلك الفترة التي كانت فيها فلسطين حزينة، ففترة العشرينيات كانت مرحلة صراع بين الشعب الفلسطيني، والمستعمرين الإنكليز، و الدخلاء الصهاينة، حتى ولادته كانت بداية لعهد فلسطيني جديد.
سعيد موسى الملقب بأبي موسى، و الذي مازال ذكره حتى يومنا هذا، فلا ألبث أن أخبر أحد أنني من عائلة مراغة، حتى يسألني عنه و ما مدى القرابة بيننا، تمنيت لو أنني أٌقول لهم أنه كان جارنا، لكن بيتنا لم يكن موجودا في ذلك الوقت، جدار بيتنا الملاصق لجدارهم هو الذي كان أكثر حظًا منا.
عائلة فقيرة تعيش في حارة مراغة، لا نعتبرها من الطبقات المسحوقة، فهي كبقية العائلات، عايش أوضاع صعبة خلال فترة حياته التي امتدت حتى عام 2013، شهد مراحل عدة، فيقول عنه صديقه ما إن سألته عن ممارسات المستعمرين، وتغيرت ملامحه وكأنه يسترجع ألم الماضي، والأفعال الوحشية التي كانوا يمارسونها.
ذاكرته المليئة و المزدحمة بالأحداث، لم تجعله ينسى أهازيج الثوار، بالرغم من صغر سنه في ذلك الوقت، ففي عام 1936 كان يبلغ من العمر 10 سنوات، هذه السنوات كانت كفيلة بجعله يتذكر ذلك الإضراب، و ما زال يحفظ تلك العبارات التي كانت تردد على ألسنتهم :"صهيوني دبر حالك نفذوا الثوار ،معهم فوزي القاوقجي البطل المغوار".
ما أجمل طفولتك و ما أجمل عائلتك، العائلة الثورية، و الثوار لا ينجبون إلا ثوارا مثلهم، فكيف لأمثال موسى مراغة أن ينجب شخصا عاديا، كأن الروح الفدائية تجري في دمهم، أو أنها جينات متوارثة، هذا ما نجده ظاهرًا بامتداد السلالة، فجميع من حملوا الاسم حافظوا عليه، فأخوه هو الشهيد اسحاق مراغة الذي خاض اضرابا عن الطعام في سجن نفحة، و ابن عمه نائب الأمين العام للجبهة الشعبية، و المعروف بتاريخه النضالي أبو أحمد فؤاد ،و كم هائل من أبناء العائلة الذين ناضلوا في صفوف الثورة الفلسطينية.
خلال فترة شبابه كان حاقدا على الإنكليز و كان هدفه الوحيد و ما يقوم به هو مقاومة الصهاينة ، كان ينظر لليهود خلال احتفالهم بسقوط ألمانيا نظرة اليأس،لم يعش لحظة انهزام كهذه من قبل ، مثل طير قد كسر جناحه ،أو رضيع أبعد عن أمه .
ما بين حب الوطن وحب الأهل، اختار طريقه، لم تكن حياته طبيعية كباقي الشباب، داخل رأسه يوجد كتلة مقاومة، و الذي يحركه عواطفه، و لكن لا ننكر ذكاءه الشديد، و إنجازاته العديدة، وحبه للبندقية، كان يحبها كأنها ابنته، ويعتني بها كطفل بدأ المشي حديثا، فالبندقية هي سلاحه الوحيد، وطريقه الصحيح لتحرير وطنه.
لم يسلم أبو موسى من الإعتقالات في فترت فتوته، فقد اعتقلته المخابرات الأردنية لمدة 3 شهور على إثر تشكيله لجماعة والتسلسل لقرى يسكنها اليهود، لم يكن هذا الاعتقال الوحيد فتم أسره مرة أخرى لمدة خمسة شهور، حتى التحق بالجيش الأردني، و تخرج منه.
يوم كامل من إطلاق النار دون أمر عسكري ،هذا ما قام به بمجرد تخرجه من الجيش،بالطبع أهدافه من دخول الجيش كانت واضحة .
ها هو يكبر بالعمر و يصبح ذا مسؤولية أكبر، الزواج والعائلة يتطلبان استقرارا، لكنه لم يقف هنا استمر بنضاله، لم يستطع أحد إخماد صوته، نور بداخله ،لعل ذلك النور تسلل إلى قلبه من الثقوب التي نتجت بسبب الرصاصات التي اخترقت جسده في مراحل عديدة، والاغتيالات المستمرة.
كان حاضرا و متجهزا دائما، فلم يقتصر هذا الحضور فقط على الجنوب، وفي صمود بيروت، ففي عام 1983 انشق عن حركة فتح ليؤسس فتح الانتفاضة مع أبو خالد العملة وأبو صالح، لعل الأمر الذي ساعده في هذا الانشقاق هو شعبيته العالية، فكانوا يغنون له في الاحتفالات (أبو موسى لعيونك والعاكُورة ..... فدائية من رفح للناقورة)، مما جعل القوات العسكرية تنضم له.
كان متمردًا على الوضع لم يكن يعجبه أحد من القادة، حاول منع تجاوزات (زعران) القيادة في بيروت، كان متواضعا جدا، لم يشهد له مظاهر الترف والبذخ، قوي لدرجة أنه لم يركب يوميا السيارات المصفحة، على الرغم من تعرضه لمحاولات اغتيال عديدة. حتى جاء ذاك اليوم واستطاعت تلك الرصاصة اللعينة اختراق جسده، تمت إصابته و نقله إلى برلين حتى تماثل بالشفاء.
الغريب بالأمر أن بعد خوضه لتلك الحروب، وتعرضه للاغتيالات، والاعتقالات، لم يمت تحت زخات الرصاص، كأن القادة و الرموز لا يجب أن تموت هكذا، لكي تبقى صورتها محفورة بأذهاننا، فالرجل الذي عرف بالقوة، كيف لرصاصة معدنية أن تنهي مسيرته النضالية، وفي 28 يناير عام 2013، فقدنا العقيد أبو موسى مراغة، بعد صراع مع المرض.
بعض التاريخ يزور، والبعض يخترع الأكاذيب، لكن يجب علينا مراجعة التاريخ، لفهم شخصية أبو موسى جيدًا، بعيدًا عن ما يقوله القادة الجدد، أو القدامى، لن أنسى يومًا ذلك الأستاذ (أستاذ جامعي)، عندما طلبت منه أن أعرض نبذة عن حياة أبي موسى أمام الصف، و إذ به يمسك الكتاب، و يقذفه جانبا، ويقول لي "منيح اللي اتخلصنا منه بدك ترجعي اتزكري الناس فيه"، مقدار انزعاجي زادني فخرًا، ألهذه الدرجة تخشون منه ومن أفكاره ؟، ألهذه الدرجة ترتعبون عند ذكر اسمه.
من ذاك الحي الصغير نشأ وكبر، وبمسافة بعيدة عنه وفي سوريا فقدناه، ما أحوجنا لمثل هذه الشخصيات في يومنا هذا، الجسد ذهب والروح اختفت، لكن الأفكار باقية، و المبادئ و القيم لا تتغير، والثوابت الوطنية كما هي، نم في سلام ، فهناك من يكمل المسيرة.