" النتائج تشير إلى نيل فتح ثقة الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية، وعدم ثقة الشارع بحماس، وضياع اليسار وتمزقه"
أقل ما يقال في هذه الخلاصة في التحليل لنتائج انتخابات مجالس الطلبة في الضفة الغربية أنها سطحية ولا تحمل إلا وظيفة دعائية، أو هي قليل مما يقوم به المحللون أصحاب الجهد المتواضع في المشاهدة الحية والراغبين في الاستنتاج الغريزي دون تحرٍ وتدقيق للشواهد والظروف. كل هذا الاهتمام بالنقد والمراجعة والتحليل لنتائج الانتخابات يرد إلى كثير من العوامل التي تختلف باختلاف القارئ والمستطلع، حيث يبدو من الخلاصة السابقة أن قياس الحالة الفلسطينية وتوجهات الشارع من خلال أخذ شريحة الطلبة الجامعيين وآرائهم فيما يسمى مجازاً "الكتل الطلابية" هو ما يشغل بال أصحاب هذه النتيجة، وقد تجد التحليل داخل كل جهة مشاركة في التجربة الانتخابية سعياً لتقدم مستقبلي ومراجعة عامة للأداء. وحيث أن أهل مكة أدرى بشعابها وأبناء الجامعة أدرى بانتخاباتها، فإن كثيراً مما غاب عن الحالة التي أجريت فيها الانتخابات من حيث الكيف والزمان قد يخرج التحليل بصورة أكثر قرباً مما حدث وكل مسميات مثل: التجربة الانتخابية، العرس الديمقراطي، الأجواء السلسة ستكون نشازاً إذا ما قورنت بما حدث خلال الأسابيع الماضية في انتخابات مجالس اتحاد الطلبة.
عدم وجود الحاضنة الأمنية والنفسية والديمقراطية العادلة لجميع أطراف الانتخابات هو ما ينسف أية حجة تفيد بديمقراطية الحالة، أو أن : "الكلمة للصندوق فقط " ففي حين تجلس هيئات الشبيبة الفتحاوية لترفد الجهاز الأمني بكل صغيرة وكبيرة عن انتماء هذا الطالب أو ذاك تحت حجة توقع النتائج، تجلس أطراف أخرى تحت القلق من ملاحقة مزدوجة من الاحتلال والسلطة أو من ينوب عن الآخر في ذات المهمة، هذه إحدى أكبر المهام التي تقوم به شبيبة فتح، حيث تجتمع " إدارية " كل منطقة في مقر الجهاز الأمني مزودين من إدارة الجامعة – لسبب تعرفه الإدارة أيضاً- بقائمة ببيانات الطلبة ( أسماؤهم الرباعية، أرقام الهويات الشخصية، الكلية، التخصص ... ) ويبدأ الفرز الأمني، "فلان ابن فلان؟" يسأل أحد عناصر الشبيبة. "شبيبة" يجيب آخر. يكتب حرف الشين – مثلاً- أو حرف الكاف أو الجيم أو الميم حسب الإجابة بجانب هذا الاسم على نسختين من قوائم الطلبة، إحداها لاستخدام الشبيبة والأخرى لاستخدام الجهاز الأمني، ويستمر التناوب على تقديم المعلومة، هذا يذكر اسم الطالب أو الطالبة والآخر يحدد انتمائه، وبتعاون متظافر بين المطلعين من "زملائهم" والمتحرين عنهم من الجهاز الأمني يتم إدراج الطلبة في قاعدة بيانات الجهاز الأمني بالاسم والتخصص والكلية ورقم الهوية والانتساب السياسي. إنجاز أمني وجمع للمعلومات قد يكلف الكثير ينجز في ليلة واحدة أو ليلتين، من مصادر مطلعة على الجهة المستهدفة في المسح.
لا ينتهي الإرهاب الأمني عند هذا الحد، فهذا أمر وإن كان خطيراً وينسف كل أسس النزاهة لطلاب يعملون كمخبرين متلصصين على زملائهم فالأمر يصل إلى حدٍ أكثر قبحاً وفجاجة، الحديث هنا ليس عن الاعتقالات في صفوف الطلبة، ولا عن استدعائهم للتحقيق (هذا لا يعني أنه لم يحدث)، بل هو حضور الأجهزة الأمنية كلها في كل مفاصل العملية الانتخابية وليس لأن الكاميرات وأجهزة تسجيل الدعاية الانتخابية لا تكفي، بل هنالك ما هو أهم من ذلك وهو الإرهاب النفسي للطلبة الناخبين، تدخل يوم الاقتراع للجامعة ولا تعرف أحداً في الساحة، أنت الغريب بين كل هذه الرتب، يكفي أن تكون عارفاً لشخص يعمل في جهاز أمني واحد لتفهم : "على تلك الكراسي تجلس المخابرات، والثلاثة الذين يتمشون جيئة وذهاباً هم من الأمن الوقائي، والواقف على مدخل بوابة المبنى الذي يتم فيه الاقتراع من جهاز المباحث العامة، والذي يختلي بتلك الفتاة في زاوية بالكافتيريا عنصر أمني تنقل بين ثلاثة أجهزة وهو عاطل عن العمل" وقد يكون من المحزن والمقلق لو قابلت في ذلك اليوم أحداً ممن كان في سجونهم ليقول لك: " أترى ذلك الشخص بالمعطف الرمادي؟ كنا نلقبه بالخنزير، كان يتجول بين الزنازين ليلاً ويمنع عنا السجائر. هل ترى ذلك الكهل ذو الابتسامة التي تشق وجهه بالعرض؟ هذا أبو طحلة ، محقق في جهاز أمني، ما زال مقتنعاً بأن إدوارد سعيد على قيد الحياة ويشارك البرغوثي في قيادة المبادرة". أمن الجامعة لا يفعل شيئاً، وإدارة الجامعة ترى وتسمع، بل تجامل هذا وذاك، ويأتي الكثير من الإداريين مصافحين متسائلين: "كيف ترون الوضع؟"
وبعد كل هذا يأتي أحدهم ليلخص الانتخابات بأن سياسات فتح تلقى ثقة الشباب الفلسطيني! والأسوأ من هذا التحليل لكل العارفين بهذه التفاصيل أن يقولوا: انتصر كرت المحمول على المبادئ والوطنية، صحيحٌ أن معظم الكتل الطلابية تمارس دعايتها الانتخابية بشتى الوسائل النزيهة منها والقذرة والتي منها شراء الأصوات بأبخس الأثمان ككرت هاتف محمول، أو وعد بقسط جامعي لن يتحقق، أو مجرد تطمين بأن ملفك الأمني لدينا "نظيف" أو حتى استخدام العلاقة الشخصية في التأثير بشكل فج على قرار التصويت، لكن هذه الوسائل مضافة إلى ما سبق وللأسف تؤتي أكلاً، وهذا يطرح سؤالاً عن الدور التوعوي للكتل الطلابية غير الشريكة في القبضة الأمنية، ويطرح سؤالاً آخر حول جدوى المشاركة بلعبة لا تتسم بأقل سمات الديمقراطية ولا تحمل من النقابية سوى مطيّة لتمرير مشروع سياسي أو أمني، فهل كانت الكتل المنافسة لمرشحي أجهزة السلطة مجرد شاهدي زور على "الديمقراطية وقبول التعددية" ؟
بعد الكارثة الوطنية التي وصفت بالانقسام لا أستطيع أن أستوعب تأخر تشكل تيار سياسي يجد صداه في خطاب الكتل الطلابية الرافضة له (طبعاً كانعكاس لسياسة كثير من الأحزاب التي رفضته) ولست أرى أي تبرير معقول على أن عدد الكتل المتنافسة على انتخابات مجالس الطلبة قد تعدى ثلاث كتل ( طرفي الانقسام، والتيار الرافض البديل)، الجدير بالذكر أن التبريرات المقدمة من الرافضين للانقسام تضعنا أمام صورة منقسمة داخل هذا الطرف، تدور الخلافات على شكل واسم وصيغة التشكل للتحالفات والمحاصصة داخلها فيما لو حدثت المعجزة وخرجنا من المأزق الثنائي، بيد أن هذا يضعنا أمام بديل يحمل صفة الخل في المثل المحكي بالدارجة : " دود الخل منه فيه".
مثالاً على جامعة بيرزيت التي استطاع طرف ثالث رافض للانقسام أن يملك الحجر المرجح لكفة الآخر، اختار هذا الطرف أن لا يتخلص من الانقسام بالتخلص من أطرافه وسيادتهم، بل على العكس، دعا كلا الطرفين إلى الدخول في صنع القرار، وحوّل التفرد المفصول جغرافياً إلى تفرد منقسم متحد على رفضه، يبقى اختلاف وانقسام الطرفين على ما انقسموا عليه باقياً ويتفقون على رفضه والقضاء عليه لأنه البديل عن كليهما. فإن كل الشواهد التاريخية تشير إلى أن ضعف أي تيار ثالث سيجعله بعد كثير من الضربات ملحقاً بإحدى الطرفين وممراً لسياساته رغماً عنه، نستطيع تتبع ذلك إذا ما لاحظنا تناسب المعارضة السياسية لحزب واحد "نفس الحزب" مع شطري النظام الحاكم، حيث تشكلت معارضته وانقسمت بما يتناسب معارضةً مع هوية الطرف المسيطر. فإن كان الطرف الثالث غير قادر على السيطرة الجامعة والرادعة عليه أن يعيد النظر في سياسته التي تسعى للتأثير بالقرار والبقاء في المقعد الثاني، وهذا يفرض مسؤولية تقضي بعدم زيادة الرأسين إلى ثلاثة، بل بتكسير اثنين ليبقى واحد جامع.
إن النتائج الرقمية للعملية "الانتخابية" يجب أن تقحم الجميع في جلسات التقييم للتجربة وأهدافها وجذور أهداف المشاركة الديمقراطية بحد ذاتها. فالسؤال المطروح على كافة الأحزاب السياسية التي تمد بأذرعها الطلابية إلى الجامعات هو هل تريد الأحزاب أن تحضر إلى الجامعة وتستخدم جيل القيادة المستقبلي كواجهات لها ؟ أم هي معنية باقتحام الوسط الجامعي للاستفادة من الأفكار الجديدة والمتحررة من القيد التنظيمي؟ والتي لربما تجد طريقاً إلى تغيير أصبح واجباً بل فرضاً على من يريد مواصلة الطريق الوطني الذي تفرّع وتشعّب واتخذ في كثير من وجهاته مسالك ابتعدت عن فلسطين. والإجابة عن هذا واضحة لن تتغير إلا بقرار شجاع يتخذه الطرف السياسي أو يجتهد فيه الجسم الطلابي برفض كونه مجرد ذراع لدماغ خارجي.