-كما رواها جدي (1901-1999)
ولد محمد فاطمة في العام 1903 من القرن الماضي وفي سن التاسعة أصبح يتيمًا، حيث حارب والده مع الدولة العثمانية في اليمن هو ومجموعة من شبان القرية، حيث كانت المشاركة في الحرب مع الدولة العثمانية في ذلك الوقت إجبارية على كل شاب يستطيع حمل السلاح، عاد البعض منهم ولم يرجع والد محمد والأغلب أنه استشهد هناك في اليمن ولذلك كنّيّ باسم والدته, "فاطمة".
بعد الحرب العالمية الأولى، كانت البلاد تعاني من الفقر وقلة مصادر الرزق وكباقي أقرانه وكباقي القرى في فلسطين هاجر محمد إلى أمريكا وكان ذلك في العام 1921، حيث قضى في الغربة في أمريكا ثلاثة أعوام وكان حب الوطن وحب فلسطين دائمًا يلاحقه، وكذلك حنينه إلى أمه التي ربتّه بعد إسشهاد والده وتيتمه صغيرًا.
كل ذلك كان سببا في رجوعه المبكر إلى وطنه سريعًا, ففي العام 1924، عاد إلى وطنه فلسطين وإلى بلدته بيت حنينا بعد أن تمكّن خلال وجوده في أمريكا أن يتحصل على رخصة لقيادة باص ولم يكن هذا بالأمر السهل في ذلك الوقت، وبمساعدة من عائلته وبما جمعه في غربته تمكن من شراء باص للنقل يعمل على خط "بيت حنينا-القدس"، حيث عمل عليه سنتان وبعدها تزوج في العام 1926 وكان له خمسًا من الأولاد والبنات وكان ميسورا وحياته مقارنة بباقي الناس مستقرة وممتازة.
كانت الهجرة إلى فلسطين في إضطراد وخاصة من أوروبا وخصوصًا بعد تآمر بريطانيا وتمريرهم لذلك الوعد المشؤوم قبل مئة عام، بدأ محمد خلال عمله كبقية الفلسطينيين يشعر بخطر إزدياد أعداد المهاجرين الجدد وبدأ هو كغيره من شباب فلسطين وخاصة الفلاحين بالتخطيط لمقاومة المستعمرين الانجليز فكانت ثورة العام 1936 والتي تعتبر من أكثر الثورات التي أثرت في التاريخ الفلسطيني سياسياً لإبراز الهوية الفلسطينية وإجتماعيا حيث جعلت الفلاحين واجه الشعب الفلسطيني .
كان محمد يقاوم الانجليز سرًا ويعمل على حافلته نهارا كأن شيئًا لم يكن، تطورت الأمور وزادت المقاومة وكثرت الاعتقالات والإعدامات من قبل المستعمر الانجليزي ضد المقاومين الفلسطينيين، وظلت الأمور تتعاظم والمقاومة تشتعل حتى خريف عام 1938 حيث قرر محمد الانضمام إلى رفاقه في الثورة بشكل دائم بسبب زيادة بطش المستعمر في أهالي فلسطين.
استعاد محمد رباطة جأشه وترك حافلته والتحق برفاقه الثوار المطاردين في منطقة ما يسمى بعيون الحرامية على طريق نابلس وأصبح محمد من المطلوبين للإنجليز وبدؤوا بملاحقته للعثور عليه من أجل إعدامه إلا أنه كان ليلا وبرغم المطاردة والمراقبة يزور بلدته التي ولد وترعرع فيها ويزور عائلته و تمكن من زيارة بلدته مرتين سراً ومتخفياً.
شارك في معركة رام اللة الشهيرة حيث أوقع الثوار خسائر كبيرة في المستعمرين الإنجليز واشترك في عدة هجمات على مواقع ودوريات المستعمرين حتى نهايته.
وفي يوم من الأيام كان "محمد" على موعد سيغير حياته إلى الأبد ففي أثناء رجوعه من القدس في حافلته في يوم خريفي شاهد إثنين ممن حضروا من أوروبا من المهاجرين الجدد لفلسطين على دراجة نارية يسيرون بجانبه على طريق القدس- بيت حنينا والسلاح على أكتافهم.
وبكل وقاحة طلبوا منه التوقف جانبا حتى يتسنى لهم المرور بسهولة فقد كانوا متوجهين إلى إحدي المستعمرات التي تجثم على أرض أجداده، فلم يحتمل أن يرى هذا المنظر وكيف للغرباء ومن سرق الوطن وبقوة سلاح المستعمر الانجليزي أن يوجهوا له هذا الأمر المذل وما هي إلا لحظات حتى كانوا تحت عجلات الباص.
هي لحظات لم تستغرق سوى القليل من الوقت ولم يفكر بما سيكون مصيره ومصير أولاده وبناته وأرضه وحافلته من بعده ولأن حبّه وغيرته على بلده ووطنه كانت أهم حتى من أولاده الذين كانوا أطفالاً صغاراً وزوجته الحامل في أشهرها الأولى وطفله الأخير الذي تيتم وهو في بطن أمه.
استشهد محمد ولم يتمكن من رؤية آخر أطفاله حيث سمي بعد مولده محمد كإسم أبيه بعد أن كان مخططا له إسم آخر وما زال إسمه (محمد محمد) ظاهرًا على قبره بجوار أبيه الشهيد في مسقط رأسهم بيت حنينا.
هناك روايتان الاولى أنه أستشهد في هجمة للثوار بالقرب من بلدة جالود ودفن في قرية سنجل على طريق نابلس فترة ثلاثة أشهر، والثانية أنه تم إغتياله من قبل قوة إنجليزية خاصة هاجمت إجتماع للثوار قي قرية سنجل.
وصل خبر استشهاده لأهل بيت حنينا وكان لابد لهم من إعادة جثمانه إلى مسقط رأسه ليدفن في مدافن القرية، فتطوّع عددٌ من شبان البلد وذهبوا سراً لإحضار جثمانه من سنجل وتمكنوا من إخراجه من القبر ويقال أن شعر لحيته كان لا يزال ظاهراً على وجهه وجسده غضا طريا كأنه مات من لحظته, كيف لا وهو شهيد ووضعوه على ظهر حصان حتى لا ينكشف أمرهم وأحضروه إلى بيت حنينا ليلّا وشيعه أهل بلده ودفن في مقبرة البلد.
كان "محمد بن فاطمة بن الشهيد" .. من أوئل شهداء بيت حنينا على أرض فلسطين.