بكى عباس، بل سقطت دموعه سهوًا... ما أقسى لحظة تشييع بيريز تلك! لحظة حضرها رجال العالم، ومندوبو السلام "المبهم" ورؤساء الجمعيات الدولية العامة ومنظّرو الحقوق وأساتذة القانون... وقتما فقدت اسرائيل زعيمًا ساهم في تكريس سيادتها بوسائل شبه "آمنة" و"مسموحة"، حسب معايير عباس وغيره من شركاء أنظمة الشعوب العربية، وغاب عنها بيريزها تاركًا خلفه مسيرة من انجازات لا تكفيها السطور، ولا تشبّعها الصفحات... أتت لحظة الوداع لمخطط مجازر "قانا" اللبنانية، ففارقنا ذاك "العظيم" الذي أباد الآلاف من الأبرياء على مدى سنوات، ذاك الذي إستحق جنازة على دمويته... بكى عليه عباس، بل سقطت دموعه سهوًا...
تغيّر جو العاصمة في "اورشاليم"، لم يعد لثاني أوكسيد كاربون "شيمون" أي أثر في طبقة الهواء... لم يعد ذاك الأوكسجين المشبّع بالدم مصدرًا لطمع جسد رئيس أعظم دولة في الشرق الأوسط. فقد عباس شريكًا لم يساهم يومًا جديًا بحل الدولتين، ومن داخل سجون دولة عبد الناصر خسر مرسي صديقًا عزيزًا كان رئيسٌ لسلطة اغتصبت يومًا على يد دولة "المفقود"... هي وفاة لمغيّر بعد ٩٣ سنة من حياة طويلة هُلك بها الالاف، شُعلت بها فتن في دولٍ، لم تُطفئ نيرانها بعد...
بعثت جنازة بيريز نسائم مؤذية هي للعرب، مجبولة من سكين، طُعن بها كل منّا على سبيل الفقدان والتحطيم خلف شاشات التلفزة، أمام شاشات الهواتف الذكية، لكنه لم يشعر به عباس أمام إستحقاق اللحظة المباشرة، ولا نواب ورؤساء الأمة النائمة، ولا جيوب تجار لقضية خاملة جارا عليها الزمن و"حراسها" ثمانية وستين عامًا...
سقطت دموع قائد فتح... تأثر محمود عباس فجأة، أمامه لم يكن جثمان بيريز، أكان أمامه ذكريات مرّة لجرائم ارتكبها صاحب الجنازة بحق أبناء وأطفال شعبه عبر العقود الماضيّة؟
أيعقل أنه قد رأى محمد الدرة أمامه، تذكّر كيف مات وبيريز على قيد الحياة يخطط لقتل المزيد؟ أعادت اللحظات بذاكرته الى تسميم زعميه " أبو عمار" بيد ساقطة للصهاينة، شارك بها عربٌ أكثر سقوطًا... أتذكّر رئيسُ السلطة "المغتصبة" مجازر بيريز بحق شعبه، والظلم، والاستبداد، والقهر وسلب الحقوق؟
أيعقل بكاء عباس على دول عربية مقسّمة، على سوريا موجوعة، وعراق متألم، ويمن مجروح؟ قد رحل رجلُ المؤامرات إذًا، لم لا يدّمع، أتكون هي دموع الفرح من جديد؟... دموع إنتقام؟!
أحضر عباس ليدرك نشوة الإنتقام؟ أغمر ابنة الراحل سائلًا بهمسٍ: أبت تشعرين بأحاسيس الطفلة الفلسطينية التي كانت تفقد أبيها عند كل غارة؟ أبكت هي معتذرة، وبكى هو منتصرًا؟
سيذكر التاريخ يومًا ما مُمجدًا بعباس: حينما جرأ رئيس فلسطين على حضور جنازة " قاتل "، وغاب عنها وزراء وأمراء خشية ردة فعل شعوبهم، هؤلاء الذين تمنوا مباركات إسرائيل مرات كي يستمروا قادةً على شعوب مقهورة...
ستعرض كتب التاريخ تلك اللحظة الفوتوغرافية، حينما سقطت دموع عباس سهوًا كمرحلة انتقال حاسمة... بالمقابل، ستُمزّق صفحات الماضي للعرب بقوةٍ: لقد تعب المؤرخ من الإنتظار... قد مرّت سنوات ولم يخلق عبد ناصر آخر، ومات رجل "السلام" الحقيقي ياسر عرفات، وخسرنا صدام حسين في ظروف غير عادلة، ودولنا تتمزّق وشعوبنا تتعارك من أجل "اللا شيء "...
أتكون هذه الأيام الداكنة والمواقف المخجلة نقطة تحوّل لتسجيل تاريخ هزيل ومُمتد للعرب؟ أياتي يومٌ ونخبر به أحفادنا واقعة فاجعة: لقد بكي رئيس القضية على مجرم شرد الملايين، وقتل ملايين آخرين، ولم يتأنى عن التجليل به... حينما يعود الأحفاد خائبين عند آخر السطور، حينما يُطبع العنوان الذي يتكرر مجددًا في كتبهم: وسقطت السياسة العربية مجددًا في وعر الهزيمة، وإنتصرت اسرائيل مجددًا حتى في أمواتها !
أخيرًا، أيبقى هناك من تحيّة تذكر لمحمد الدرة ولأصدقائه؟ أيرون ما يحصل تحت القبور؟ ليتهم لو يغمضون أعينهم من أعلى السماء إلى ما تحت التراب، ليتهم لا يعاودوا رؤية مشاهد مقززة كتلك! ليتهم يبقون في عالم التضحيات المجانيّة والأحلام الواعدة برسم العجز العربي، فذاك مشهد ملّوع كنكبة أخرى، لحظة تخلٍ أُخرى ستُضاف إلى سجل الكرامة العربيّة !