إن من أبرز الشروط اللازمة للتفاوض وجود رغبة حقيقية ومشتركة لدى الأطراف المتفاوضة لحل خلافاتها أو إنهاء الصراع فيما بينهم، مع وجود قناعة من قبل جميع الأطراف المتفاوضة بأن التفاوض هو السبيل الوحيد للتفاهم وتقريب وجهات النظر.
ولكن في الحالة الفلسطينية- الإسرائيلية، السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس أبو مازن مقتنعة تمامًا بأن المفاوضات هي الطريق الوحيد والأوحد للسلام بين الطرفين، حيث تعمل السلطة في السر والعلن من أجل انجاح العملية التفاوضية.
أما في الحالة الإسرائيلية، فمع تغير العديد من الحكومات منذ بداية التفاوض وإسرائيل تستخدم سياسة"التفاوض من أجل التفاوض"، فمن خلال تتبع مسار التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي يتبين أن الطريق الأوحد لإسرائيل من أجل مواصلة القتل والاستيطان والحرق والاعتقال والهدم هو بقاء التفاوض، مدعية أن كل ما تقوم به هو تدعيم للمفاوضات، وأن الطريق الوحيد للفلسطينيين هو الاستمرار في هذه المفاوضات لتأمين وحماية تحركات الاحتلال، وفي النهاية الطرفان ملتزمان في مسار التفاوض الذي يصبّ أولًا وأخيرًا في مصلحة إسرائيل وعلى حساب الشعب الفلسطيني، وذلك تحت بند لابديل عن المفاوضات.
فالمفاوضات بين الطرفين السابقين خلقت علم مفاوضات جديد، فلو طبقنا مراحل التفاوض الفلسطيني مع إسرائيل على الدراسة الجامعية مثلًا لوجدنا أن الطالب تخرج من المرحلة الجامعية الأولى بعد أربع سنوات بدرجة بكالوريوس-تخصص مفاوضات- ولم يستطع إقناع شريكه في المفاوضات "إسرائيل" بأن المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الصراع. ومن ثم استكمل الطالب المرحلة الجامعية الثانية (ماجستير) بنفس التخصص وهو غير قادر على تغيير موقف المفاوض الإسرائيلي، واستمر الطالب الفلسطيني في إكمال تعليمه الجامعي من أجل إقناع إسرائيل بأن الوسيلة الوحيدة هي المفاوضات وليست الدمار والحرق والقتل ليحصل على درجة الدكتوراه في علم التفاوض، إلا أنه فشل فشلًا ذريعًا في إقناع شريكه الإسرائيلي في إحلال السلام، ومع ذلك استمر الدكتور الذي كان طالبًا في محاولة التفاوض مع إسرائيل،التي تعتبر أن كل ما تقوم به هو تدعيم للتفاوض من أجل الوصول للسلام بين الطرفين.
فعلى الرغم من فشل مسار التفاوض مع إسرائيل الذي بدأ من عام 1991 ومازال مستمرًا حتى يومنا هذا والمفاوض الفلسطيني مصرٌ على استمرار المفاوضات. حيث ألّف كبير المفاوضين الفلسطيني الدكتور صائب عريقات كتاباً بعنوان (الحياة مفاوضات)،في الوقت الذي ألّف فيه الاحتلال كتاباً بعنوان: (الحياة اليومية: قتل واستيطان وتهويد وحرق)،ويناقش الفصل الأخير من كتاب الاحتلال موضوع "المفاوضات على المفاوضات"،الذي يتطرق فيه الاحتلال لأساليبه المتطورة والجديدة في التفاوض والقضايا الجديدة التي يبتكرها من أجل بقاء الأمور على حالها– وهذا يذكرني بإدارة السجون الإسرائيلية، فعندما كان الأسرى الفلسطينيون يحققون إنجازاً ما للحركة الأسيرة كانوا يدفعون ثمن ذلك في العزل والقمع والمنع من الزيارات وغيرها من وسائل العقاب الجماعي، ومن أجل سحب إنجازات الحركة الأسيرة كانت إدارة السجون تغلق أبواب الحوار مع الأسرى بشكل مقصود من أجل دفع الأسرى للإضراب والاستنفار الذي سيؤدي للاشتباك مع إدارة السجن وسحب جميع الإنجازات، حتى تبدأ عملية التفاوض عليها من جديد.وهكذا تستمر الحياة في سجون الاحتلال، لكن التفاوض ليست السياسة الوحيدة التي يعتمد عليها الأسرى، بل كان الأسرى يطورون من فعالياتهم وأساليبهم وأنشطتهم وخططهم وبرامجهم في حال فشل الحوار مع إدارة السجن من أجل تحقيق مطالبهم, حيث ابتكر الأسرى الإداريون معركة الأمعاء الخاوية "الاضراب عن الطعام" التي انتصرت على قرار الشاباك الإسرائيلي في استمرار تجديد الاعتقال الإداري لهم–لقد أنهت إسرائيل القضية الفلسطينية ونحن مازلنا نقول لا بديل عن التفاوض، فالمفاوض الفلسطيني وضع كل البيض في سلة واحدة وهي "سلة المفاوضات" .
إن المفاوضات مع الاحتلال ولم ولن تحقق أي إنجاز للفلسطينيين، وإنما منحت الاحتلال الوقت من أجل توسيع الاستيطان، وتهويد القدس، وقتل الأطفال والشباب الفلسطيني، وتدمير القضية الفلسطينية على المستوى العالمي. فإسرائيل تعمل جاهدة على إطالة فترة التفاوض قدر الإمكان دون الوصول مع الفلسطينيين لأي نتائج ذات قيمة، مستخدمةً سياسة استنزاف وقت المفاوض الفلسطيني وجهده وكافة إمكانياته في قضايا جانبية شكلية، مؤجلةً جميع القضايا الجوهرية.
إن التفاوض الفلسطيني – الإسرائيلي خرج عن أبسط مبادئ علم التفاوض، حيث خلقت إسرائيل علماً جديداً وهو التفاوض على التفاوض، الذي يمكن أن يكون عنوان كتاب جديد وحقيقي يحاكي الواقع العملي لكل السنوات التي أضاعت القضية الفلسطينية في التفاوض مع إسرائيل.
لماذا لم تعمل القيادة الفلسطينية بالقاعدة السياسية القائلة "إن لم يكن ما تريد فأرد ما يكون" في كل محطات التفاوض مع إسرائيل منذ عام 1991 وحتى عام 2016؟