شبكة قدس الإخبارية

الحياة بين قبور الشهداء

شذى حمّاد

بين مجموعة الزهور والريحان والنعنع التي تزاحمت في الحوض الترابي، زرعت وردة بلاستيكية لن تعطش يوما وستبقى كما هي ميتة، بشعة، زائفة، بلا رائحة، ولكن واقفة على قبره، تحركها الريح شمالا ويمينا، لتعود وتنتصب مجددا، تحديدا كما تركها خلفه.

بشاعة الوردة البلاستيكية على قبره ستستفزك كثيرا حتى تصل درجة الاقتراب منها ومحاولة انتزاعها، والتفكير بطريقة التفنن بإعدامها، هل أحرقها؟ أما أصعد أطول بناية في المخيم وأرميها عنها؟

لحظات قليلة تمضي، لتتذكر أن هذه الوردة الرخيصة أهديت إلى غارسة الزرع من طفلها الشقي، قبل سنوات في عيد الأم .. لتمضي الأيام وتعيد له هذه الوردة، الوردة التي لن تحتاج لأحد يسقيها ... لن تذبل وتموت كصاحبها الشهيد الحي الذي يسكن تحتها.

**

من الاحترام أم الخوف يأتي هذا السكون المطبق؟

تكسره قهقهات أطفال يملكون ما يكفي من الشجاعة للعب بين الموت وحوله.... يركضون، يلعبون، ثم يتسابقون في تعبئة المياه ونقلها إلى أم الشهيد التي دخلت لتوها المقبرة.

القهقهات الشجاعة تعلو مجددا بين القبور المخيفة، إلا أنها لن تنسيك الموت ... وتتمنى لو تملك جزءا منها يدفعك للتفكير بتحريك شفتيك المتصلبتين لتبتسم وسط كل هذا العبوس البشع.

13814988_657961704360677_745857601_n

لكنك جبان، نعم جبان كطائر مسرع فوق المقبرة، يخشى الهبوط عليها والارتطام بأحد قبورها، خوفا من انتقال عدوى الموت له.

هو الموت إذا الذي يخيفك!  فلا شيء مخيف ومؤلم أكثر منه، فأنت تعلم تماما أن كاذبا من يقول لك أن الموت يؤلم الأحياء فقط، أن تعلم جيدا كيف الموت يؤلم الأموات.

ولكن كيف كانوا على قدر من هذه الشجاعة ليحتضنوه وينتصروا عليه، رغم حبهم للحياة وكل تفاصيلها؟! كيف تجرؤوا على تنفيذ عملياتهم الفدائية التي كانوا واعين جيدا أنهم لن يعودوا منها أحياء؟

أكتفي إلى هنا، ولن أكرر كلمتي شجاعة وجرأة أكثر، أنت تعلم أن ما فيهم كان أعظم وأكبر من ذلك ولا كلمات باللغات كلها تصفهم .. إلا ربما كلمة "وطن".

**

ولكن هي وحدها ربما تملك التفسير كاملا، فمنذ انتقاله إلى هنا، وهي تعتاد كل يوم أن تزوره، تجلس معه لأكثر من ساعة، يتهامسان أسرارهما دون أن يُسمعا من حولهما، ليتفقا أن تهديه إحدى سور القرآن الطويلة قبل رحيلها، وتتذرع أنها لن تتركه إلا عندما تنهيها ... هي إذا حيلة تطبقها كل يوم، فيما يضحك هو وقد فهم ما تقوم به.

حيلة جديدة أيضا اكتشفها، هي تطيل القراءة حتى تأتي أم جاره، لتعيرها القرآن، لتبقى جالسة قربه، متحججة بانتظارها، وتستمر بالتمني بينها وبين نفسها "يا ليتها تطيل القراءة كما أتطيل أنا .. وتبقى تتلعثم بالكلمات وتعيد قراءة الآية أكثر من مرة".

هي لا تعلم، أن حيلها ليست حكرا عليها فقط، فهذه الحيل تقوم بها كل الأمهات اللواتي يأتين هنا كل يوم.

13819278_657961677694013_1668761246_n

**

الزوار إلى هذه الرقعة من مقبرة مخيم قلنديا، كُثر .. هنا حياة لا تتوقف، فمن المستحيلات أن تأتي هنا دون أن ترى هذه الحياة بين قبور الشهداء.

المشهد يتكرر كل يوم وفي كل الأوقات، فالدليل الأول الورود المزروعة على قبور الشهداء، هذه أصبحت دائمة الخضرة، لا تموت مع انتهاء موسمها، فتربتها لا تجف.

أما الدليل الثاني، فالمقاعد البلاستيكية والخشبية في المكان، ما يؤكد أن الزائر لا يأتي هنا عابر طريق على عجلة من أمره، بل يأتي هنا ليجلس بالساعات الطويلة.

لم أستطع تقدير الوقت الذي قضته هنا، ولكن رجحت أنها كانت تكلمه بصوت عال، فبعدما دخلت بدقائق قليلة، نهضت، مسحت قبره بلطف كما كانت تمسح وجهه، وودعته "يرضى عليك يا ستي ... مع السلامة"، ثم غادرت سريعا.

وعلي القبر المجاور، جلس فتيين أعمارهما (13-15) عاما، ساكنان، هادئان حول قبر شهيد آخر .. لا يتحدثان ولا يتحركان، مضى وقت طويل ولم ينطقا بأي كلمة. فيما جاء شاب على عجل، وكأنه تأخر عن موعده، مسح القبر بيده، قرأ الفاتحة. ثم رجع خطوتين إلى الوراء ... ارتكز على الحائط وأشعل سيجارته.

زيارات كلها تتم بالسر، فهم غير قادرين على تحمل تحول الآخرين إلى فقهاء يحللون ويحرمون زيارة القبور. وعلى أي حال فإنهم لن يقبلوا إلا بأن تولد من بين القبور.. حياة!