جنين- خاص قُدس الإخبارية: لم يكن "أبو جندل" أحد أبرز الشخصيات الخالد ذكرُها في معركة جنين ليعيش طفولة طبيعية، بل منذ صغره إن شخصيته العسكري وميوله للعمل الوطني ظهرتا بوضوح منذ نعومة أظفاره، إذ ولد يوسف أحمد ريحان عام 1965 في قرية يعبد جنوب جنين، وعرف منذ طفولته بعناده وتمسكه حتى آخر رمق بالقرار الذي يتخذه.
يوسف كان اسمه على الهوية، لكن عائلته وأصدقاءه كانوا ينادونه بـ "حازم". درس حتى الصف الحادي عشر في مدرسة يعبد، وكان إذا أراد الخروج من منزله يتجه إلى أحراش يعبد حيث استشهد عزالدين القسام، إذ بنى هناك ما يشبه الكوخ يلتقي فيه مع أصدقائه، وحديثهم كله يدور عن الاحتلال.
أبو جندل والثورة
"أبو جندل" لقب رافقه منذ طفولته، فعندما كان يحين موعد بث مسلسل يحكي قصص صحابة الرسول، يجلس مركزا بكل حواسه دون أن يجرؤ أحد على الكلام.
يقول ناهد شقيق أبو جندل: "كنا نشاهد المسلسل وكان من بين الشخصيات في المسلسل الصحابي أبو جندل بن سهيل، وأبو ذر جندب بن جنادة، وكلا الشخصيتان كانتا تتصديان للمشركين في الطرق وتقاتلانهم، وكنا نقول لحازم بأنك تشبه أبو جندل، ولذلك كنا نلقبه تيمنا به، فأبناء جيله كانوا يخشونه، لأنه كان يضرب كل من يزعج أخوته وأصدقاءه".
أول قرارات أبو جندل المصيرية وأكبر مفاجآته لأهله، كانت عند بلوغه سن الـ16، عندما خرج للمدرسة ولم يعد، إذ تسلل صباحا لغرفة والديه وأخذ سرا جوازيهما ثم توجه إلى البلدية لإصدار تصريح من أجل التوجه إلى الأردن.
يوضح ناهد أن العائلة علمت من صديقه أنهما اتفقا مع قيادات في حركة فتح، على التوجه إلى لبنان والالتحاق بصفوف الثورة، إلا أن سلطات الاحتلال منعته من السفر فيما استطاع أبو جندل المرور. وبعد ثلاثة أيام أصدرت العائلة جواز سفر لأم "حازم" لتحاول اللحاق بنجلها إلى لبنان لإقناعه بالعودة.
ويضيف لـ قُدس الإخبارية، أن أمه علمت من مكتب منظمة التحرير بأن "أبو جندل" توجه إلى لبنان فعلا، فلحقت به ولم تجد هناك أي إجابة، ودارت بين مخيمات اللجوء بحثا عنه دون جدوى، فعادت إلى فلسطين ثم سافرت إلى لبنان مجددا مكررة بحثها عنه، وقد مرت هذه "السفرة" دون جدوى أيضا.
قبل الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982، عادت والدة حازم إلى لبنان والتقت به، وعلمت أنه فور وصوله إلى لبنان التحق بفريق الأشبال في حركة فتح، وكان قائد فريق "أر بي جي"، وطلبت منه أن يعود معها للبلاد لكنه رفض، وأبلغها قراره بأنه سيبقى في معسكرات التدريب.
بعد خروج منظمة التحرير من لبنان، انتقل أبو جندل إلى العراق والتحت بمعسكرات التدريب، وبقي هناك لخمس سنوات كان خلالها على اتصال مع عائلته، قبل أن يقرر الارتباط بـ أحلام قبها من رمانة، لتنتقل الفتاة إلى الأردن وتستقر مع أبو جندل.
رحلة الثورة والغياب التي امتدت لـ13 عاما، انتهت بعودة أبو جندل مع "العائدين" بإقامة السلطة الفلسطينية، إذ دخل البلاد مع قوات عين جالوت إلى أريحا، ليستقبله 500 شخص من بلدته، ويعمل لاحقا في قوات الأمن الوطني بمدينة أريحا، ويسقر فيها مع زوجته وأبنائه.
الثورة تسري في دمه
انتقل أبو جندل في إطار عمله من مدينة أريحا إلى بيت لحم، غير أن الشخصية الثورية العنيدة للرجل لم تتغير في زمن المفاوضات، فمن عرفوا أبو جندل نقلوا لمن يعرفوه مقولته التي أصبحت معروفة لفلسطين بأكملها خلال جدال حاد مع ضابط إسرائيلي عند مدخل بيت لحم الشمالي عندما قال: "إذا أطلقت رصاصة على الأطفال سأطلق 100 رصاصة".
عقب هذا الجدال، طلبت دولة الاحتلال من السلطة الفلسطينية تسليمها أبو جندل، لترفض السلطة ذلك وتبلع الاحتلال أنها اعتقلته. إثر ذلك نقل أبو جندل للعمل في مدينة جنين، وهناك حظي بشعبية كبيرة لدى الأهالي، ولم يطل الوقت كثيرا حتى اندلعت الانتفاضة الثانية.
يبين ناهد، أن أبو جندل كان خلال الانتفاضة يخلع زيه العسكري ويخرج في مسيرات ثم يتقدمها ويتولى الخطابة، مضيفا، "كنت أشاهد شقيقي على رأس المسيرات، يقودها ويخطب إذ كان فصيح اللسان ومتكلما، وفي بعض الأحيان كان يتلثم ويخرج في المظاهرات".
قائدا لمعركة جنين
تفاعُلُ أبو جندل مع الانتفاضة المتدحرجة دفعه بشكل طبيعي ليكون أحد قادة معركة مخيم جنين، إذ انضم لفصائل المقاومة الموحدة حينها وبرفقته 40 عنصرا من القوى التنفيذية بالأمن الوطني، وكانت الخطة العسكرية الإسرائيلية المعتمدة في حينها خطة "u" والتي تهدف لترك مجال للمقاومين للانسحاب.
النائب في المجلس التشريعي جمال حويل، أحد الشهود على معركة جنين، يقول: "كانت مقاومة أبو جندل وعناصر الأمن الوطني مميزة جدا، ورأينا نوعا جديدا من المقاتلين".
في بداية نيسان تلقى المطاردون في المخيم معلومة تفيد بأن جيش الاحتلال يعد خطة لاجتياح كامل للمخيم، وهي خطة "O" أي حصار كامل وكسر عظام المقاومة، وفقا لما أشار حويل.
كان لخوض المقاومين سابقا ثلاث معارك في المخيم، والاستفادة من تجارب اقتحام مخيم بلاطة، ورام الله قدرة على استخلاص النتائج والعبر، ومعرفة كيف تفكر "إسرائيل" عند اجتياح المخيم، فقرر المطاردون الذين كان من بينهم رجال من خارج المخيم، وقادة الفصائل وأبو جندل وعناصره الاجتماع ووضع خطة، واتفقوا منذ البداية على أنه لا يوجد عمل تنظيمي وإنما بوتقة عمل وطني موحد.
شكّل المقاتلون غرفة عمليات مشتركة، وكان أبو جندل أحد أعضائها، وكان لا بد من اختيار قائد، فاجمع الكل على اختيار أبو جندل، لما لديه من خبرة ودراية بالعمل العسكري، فطلب منه الجميع الانتقال خلف الطاولة ليضع خلفه صورة الرئيس الراحل أبو عمار ويقف قائلا: "إما أن ننتصر أو نستشهد بالبدلة العسكرية".
بدأ أبو جندل بوضع خطة عسكرية متواضعة حسب الامكانيات، تتمثل بتوزيع المتفجرات، أكياس الرمل، دواليب السيارات، الألعاب النارية، وفرق الدعم المعنوي والتعبئة والفرق الطبية والتموين، وغرفة العمليات الثانية، وقسّم المخيم إلى ثمانية محاور، وزع فيها المقاومين، وكان برفقة كل 10-15 مقاوما مجموعة من الأشبال الأدلاء، لأن عددا منهم لا يعرف المخيم.
يوضح حول لـ قُدس الإخبارية، "قبل بدء المعركة، اتخذنا قرارا بأننا لاجئون ولن نكرر اللجوء، كما أن الرئيس عرفات طلب منا أن ندافع عن أرضنا، وراهن علينا وقال في حينها: حتشوفوا ايه حيصل في جنين جراند". حينها قال أبو جندل لعناصره في الأمن الوطني: "من يريد أن يرى معارك بيروت ليتبعني"، فتبعه 40 عنصرا في القوى التنفيذية.
قبل اجتياح المخيم، كانت عائلته على تواصل معه وزارته في غرفة العمليات، إذ كان نجله البكر محمد الذي بلغ (13 عاما) برفقته ويمسك سلاح والده، أما وصية أبو جندل لزوجته الحامل قبل أن تتنقل لبرقين، أن تسمي ابنهم ب"جيش الرحمن".
في بلدة يعبد، شكلت عائلته أيضا غرفة عمليات في منزل شقيقتهم الذي يطل على المخيم، وكانوا على تواصل مع أبو جندل حتى اليوم العاشر، وذلك إما عن طريق اللاسلكي أو الهاتف.
مقاتلا شرسا حتى الشهادة
يقول حويل: "أبو جندل كان مقاتلا شرسا، رأيته يقاتل ببسالة ويتقدم الصفوف عندما نواجه ضغط، كان مميزا في مواجهته حتى اللحظات الأخيرة، فكان يجيد استخدام الـ آر بي جي خلال المعركة".
في اليوم التاسع من المعركة، نصب أبو جندل كمينا لجنود الاحتلال الذين دخلوا أحد البيوت ليلا ظنا منهم أنهم بدأوا بالسيطرة على المخيم، فتركهم أبو جندل ومن معه من أشبال وقيادات وأمن وطني يدخلون بهدوء حتى تجمع أكبر عدد منهم، وفتحوا نيران أسلحتهم صوبهم، ولأن الجنود لا يعلمون مصدر النيران بدأوا بالدخول حيث يتواجد المقاومين، فقُتل 13 جنديا وأصيب أكثر من 30، حسب اعتراف المصادر الإسرائيلية.
عندما اشتدت المعركة على المقاومين، تلقت العائلة أنباء تفيد بأن هناك من بدأ يسلم نفسه للجيش، حاول ناهد الاتصال بشقيقه وبعد محاولات عدة رن هاتف أبو جندل، سأله شقيقه أين أنت؟ فأجاب بصوت يلهث وكان يبدو أنه يركض: "في جورة الذهب، صديقي في الأمن الوطني طارق دوابشة استشهد".
قال ناهد لأبوجندل: "تحدثنا مع أحد الأصدقاء وقال لنا بأن هناك طريقة تستطيع أن تخرج بها من المخيم، أنت قمت بواجبك اخرج من أجل أطفالك"، لكن أب جندل رد عليه: "الله أكبر يا رجل بدك تحرمني من ريحة الجنة"، وأغلق الهاتف.
فقدت العائلة الاتصال بنجلها في اليوم العاشر، ما دفعها للتوجه إلى رمانة للتأكد ما إذا تم اعتقاله، إذ بدأت العائلة في ذلك اليوم بسماع أقاويل متضاربة حول اعتقاله ونقله إلى معسكر سالم، وهناك من قال بأنه استشهد.
في اليوم الثاني عشر من المعركة، ورغم ضعف الامكانيات واستشهاد عدد من المقاومين واعتقال بعضهم، قرر أبو جندل أن يستمر في خوض المعركة، فخرج برفقة أحد المقاومين من غرفة العمليات للالتفاف على عدد من الجنود، متقدما كان أبو جندل والشاب خلفه حين سمعا صوت الرصاص.
يقول حويل الذي روى له الشاب لحظات استشهاد أبو جندل: "كتب وصية لابنه ووضعها في جيبه حينما خرجنا، وفي طريقنا سمعنا طلقات، فإذا بقناص يطلق الرصاص على أبو جندل ويصيبه، فقال لي "اشرد"، لكن الرصاصات كانت أسرع مني فأصابتني".
يضيف أنه عقب إطلاق النار عليهما جاء جنود الاحتلال، وسحبوا "الكلاشينكوف" من يد أبو جندل، وسألوا الشاب الذي كان برفقته من هو؟ فأجاب "أبو محمد"، فالتقط الجنود صورة لهما، وبعثوها لمعسكر سالم، ليخبروهم بأن من قتلوه هو أبو جندل، فاحتفلوا بما اعتبروه من أهم نجاحاتهم في المعركة.
بعد تلقي العائلة الخبر اليقين؛ توجه شقيق أبو جندل الأكبر برفقة الصليب الأحمر مرتديا ملابسهم إلى مخيم جنين، وبدأ بالبحث فتعرف على جثمانه الذي كان موجودا على أنقاض أحد البيوت، ولأن المخيم كان محاصرا لم يستطع شقيقه أن يأخذ الجثمان، إذ كانت مركبة تابعة للبلدية تجمع الجثامين وترسلها إلى ساحة مستشفى جنين ليتم دفنها هناك.
وبعد يومين، سلكت العائلة طريق التفافية للوصول إلى مستشفى جنين، وتمكنت من أخذ جثمان الشهيد أبو جندل، وفي جنازة مهيبة تليق بقائد أبى إلا أن يستشهد ببدلته العسكرية، خرج الآلاف من كافة المحافظات لتشييعه وموارته الثرى في مقبرة يعبد.