شبكة قدس الإخبارية

جائزة نوبل والإضراب!

كرمل خالد

ترقبتْ العيونُ يومَ الثالث عشر من آذار بحماسةٍ جارفة.. فترشيحُ معلمة فلسطينية لجائزة أفضل معلم في العالم أو ما أسماها البعض "نوبل للتعليم" يعتبرُ أمراً بالغَ الأهمية كونه يسلط الضوء ويجذب الأنظار على نظام التعليم والمعلمْ  الفلسطيني. ولكنّ تتزامن هذه الجائزة مع جائزة أخرى تخلق مفارقة ألا وهي جائزة ما أسُميه نوبل للإضراب.

لن أكتب اليوم عن تفاصيل الخلاف وأسبابه بين المعلمين والحكومة فقد ولّلاها الإعلام قدرا لا بأس به. سيكون حديثي عن مفارقة جاءت في توقيت قاتل يجمع بين الفخر والفرح من جهة والحيرة والاستغراب من جهة أخرى.

احتشد المواطنون في ميدان الشهيد ياسر عرفات أو ما يُعرفُ بدوار الساعة سابقا ليشهدوا جميعا على نتيجة افضل عشرة مرشحين لهذه الجائزة والتي تمثلُها المعلمة حنان الحروب عن فلسطين.

تجمُّع مماثل للتجمّع الذي تمَ في السابعِ من آذار أمام مقر رئاسة الوزراء برام الله للتأكيدِ على استمرار اضراب المعلمين وحراكهم حتى تحقيق مطالبهم وحقوقهم. ورغم التباطؤ في نيل الحقوق قد كانت عجلة الفرح هي الأقرب لفلسطين حينما أعلنَ أن حنان الحروب قد نالت الجائزة.

يا للميزان الذي يحَملُ كفتين متأرجحتين في تضاد، قد هتف المعلمون "ارحل، ارحل يا سحويل".. ونادوا بأعلى صوتهم والآذان تسمع "كرامة .. كرامة". واليوم أعلن امين عام الاتحاد استقالته رسميّا. فهل هو انتصار ام سيناريو جاء في وقت لامتصاص بركان الكرامة والحقوق؟

خرج المعلمون  في كل المسيرات والتجمعات الشعبية ليتحدثوا عن جانب آخر مخفي خلف ستارة المثالية ورفعت الستارة وروى بعضهم تفاصيلَ حياةِ المعلمِ الذي باتَ عاجزا عن دفعِ اقساطِ ابنائه أو استكمالِ متطلباتِ بيته وأسرته، تحدث آخرون عن الوعود التي تضمنت علاوة الراتب وفتح الدرجات والزيادة السنوية والتي صبروا عليها ولم يَنالوها.

يستغرب البعض كيف يخرج مسؤول ما ليكرم تلك المعلمة في ذات الوقت الذي يتأنى فيه عن مكافأة معلمي الأجيال. أي شعب هذا الذي خرج ليهتف باسم التعليم والمعلم الفلسطيني وهو في حالة احباط واستنفار؟  قد نادوا وهتفوا باسم حنان.. مَن مثلت فلسطين خير تمثيل ومن لفتت الأنظار بأسلوبها التربوي والتعليمي مع الطلاب. نعم،حنان هي الأجدرُ بأن نهتفَ باسمها.

حدثني صديق ياباني رافقني في دراستي الجامعية قائلا إن المعلم في اليابان يعكس قيمة المجتمع ورقيه الاجتماعي والفكري لأنه يبذل اقصى الجهود لأجل نهضة العلم والبلاد، وكان دوري هنا أن أثبت   له أيضا أن معلمنا الفلسطيني كذلك لكننا لا نملك شيئا مما تملكه اليابان لمعلميها نظرا لظروف فلسطين السياسية والاقتصادية.

 وتابع قوله بأن اليابان تسجل ما يقارب 2.8 مليون طالب جامعي في أكثر من 762 جامعة ويدخلون مرحلة الجامعة بحب وشغف ويعملون على تطوير انفسهم لنيل الوظيفة خلافا لحال معظم طلابنا من ينتظرون مرور اربع سنوات ليجلسوا في بيوتهم اربعة أخرى بحثا عن وظيفة.

وكان أجمل ما في الحديث العبارة التي مفاد ترجمتها: "اربع ساعات تنجح، خمس ساعات ترسب"، وهي حكمة يابانية يسير عليها معظم ابناء الشعب الياباني، وتتحدث عن اربع ساعات للنوم فقط للطلاب والبقية فقط جهد واجتهاد بمعنى أن الساعة تحدثُ فرقاً في يوم الطالب الياباني. فماذا عن طلاب المدارس الذي  ينتظر بعضُهم تهديد المعلم ليفتحوا كتابا، ويرقبوا موعد الامتحان ليقلبوا صفحات الكتاب؟!

لقد أظهرت هذه الأزمة مدى اعتماد الأهالي والطلاب على المعلمين في مسيرة الابناء التعليمية وقد تأكد ذلك من الضجر الشديد الذي أبداه البعض في الشارع العام تجاه الاضراب والحراك التعليمي.

واظهرت الأزمة أيضا فوضى العقول وضعف القراءة للواقع من كل الأطراف التي تتمركز في دائرة ذات علاقة بقضية المعلمين.

فبعد مناورات كثيرة وجهود مكثفة لم تعرف نهاية المطاف وخاصة أن معلمي المدارس اعلنوا تعليق الاضراب لأسبوع واحد وأكدوا على استمرار التشاور والتنسيق بين اللجان المختصة في الوقت الذي يخرج فيه البعض ليخبر أن ما قدمه الرئيس ليس مبادرة وانما أمرا واجب التنفيذ ألا وهي نقطة الخلاف التي اثارت ردود فعل متباينة على قرار يتم تطبيق جزء منه ما بين العام 2017 و2018.

لم يخرج المعلمُ الفلسطيني من فراغ، ولم يكرس جهده ووقته ليوقفه من كان تلميذه يوما ما على حاجز أشبه بالعسكري.. لم يصرخ الا من قهر.. ولم ينتابه شعور فقدان الكرامة إلا من ذل أحاط بها! ولم يكن أمله ان يصد بقوة كهذه لأنه نادى بكرامته وحقه.

 تخيّل معي شعره الأشيب، تجاعيد وجهه التي تروي قصص تلاميذه، وتحكي عن الطابور الصباح، وتخبر عن مناوشات الطلاب، جرسُ المدرسة والخارطة الجغرافية التي تحكي عن فلسطين، تجاعيد اليدين اللتين لم تمّلا الكتابة بالطباشير على اللوح، ولون القلم الأحمر الذي صحح الخطأ وقيّم الصواب، صوته المريض وقت الشتاء، وعينه اللامعتين عطاء رغم الملل وسوء التقدير، وبعيدا عن مدرسته.. هو الأب والمسؤول عن عائلة ربما فيها من المشاكل ما يكفيه لينكسر. وهي الام وربة المنزل، من تعد الغداء في المساء لليوم التالي. قد تمرض وقد تواجه ألما ما في حياتها الخاصة. هذا المعلم ليس ريبورت آلي.. ولا آلة حديد قد استُنزف وملّ الصبرُ منه حد التعب.

نكتبُ اليوم لتاريخ الغد، قد كان المعلمُ مَلكاً وأحد الملوكِ قال: "لو لم أكن ملكاً لكنت مُعلماً".. فأين المملكة اليوم.. إنها ضائعة التاج يا كِرام.. فكيف يعود؟

يعودُ التاج في الوقتِ الذي تعود فيه مكانة المعلم الصحيحة والصحيّة، فما نراه اليوم في غاية التلوث.  يعود التاج حينما تتحقق مطالب المعلمين الصابرين منذ زمن. وهنا حقا سنثبت بجدارة المعنى الحقيقي لجائزة نوبل .

الى ذلك الحين الذي تنقشع فيه ضبابية الموقف والتضاد بشأن المعلمين، والى تلك اللحظة التي نصل فيها لمرحلة جيدة بعيدة عن موقفين مختلفين لذات السياق الا وهو الاختلاف على "المعلم". المعلمُ الذي  وُضع في ميزان يحمل كفة تكرمه لفوزه وأخرى تتوانى لتقدر وزنه الحقيقي في مجتمعه لا بد أن نقول له ما قاله جبران " أيها المعلم، سنكون خيوطا في يديك وعلى نولك فلتنسجنا ثوبا إن أردت فسنكون قطعة في ثوب العلى المتعالي".