عندما يبدأ الطفلُ بارتيادِ المدرسة، يلازمه سؤالٌ لا يفارِقه إلا بعدَ أن يتجاوزَ امتحان الثانوية العامة، ويُقبل من قِبَل جامعته في تخصصٍ معين، سؤال يسأله القريبُ والبعيد، الصغيرُ والكبير، المعلمُ والزميل، وتكمن كلمات هذا السؤال في "شو بدك تسير حبيبي لما تكبر؟ مهندس ولا دكتور ولا استاذ".
كطفلٍ ومن ثم كمراهقٍ ومن بعدٍها كشابٍ يعيشُ في مجتمعنا الفلسطيني، كنتُ لا استسيغ هذا السؤال ابدا، وان كنت احيانا اضطرُ للإجابةِ عليه من باب المُجاملة لا أكثر، فإني كنتُ وبلا تردد أبدي استيائي من كلمة استاذ، وأرد على فكرةِ أن اكون معلماً بشكل هجوميٍ، وكأن السائل قد تعرض لثابتٍ من ثوابتي.
وفي يومٍ من الأيام اضطررتُ لأجيبَ عن سبب كرهي ورفضي لأن اكون مُعلماً، فكان جوابي كـ فتى يبلغُ حينها قرابة الـ 15 عاما، بأن المعلمَ يَدرسُ 4 اعوام في الجامعة، ومن ثم يأتي للتعليم في مدارسنا، ليُفرغ كل همومه ومتاعبه النفسية علينا كطلبة، يخرُج للعمل كبائع متجولٍ بعد دوامه المدرسي، ويعودُ لنا في اليوم التالي ليُسقِط كل احقاده التي تولّدت بسبب عدم شراء الناس منه.
مرّت الأعوام، ولم تَتَغير هذه الفكرةُ كثيرا في رأسي، فبقي المُعلم في صورته النمطية المتولدة لديّ، بأنه ذلك الرجل الذي يَكرَهُنا، ولا يرانا إلا كبضاعتِه التي يتجولُّ بِها مساءً، فنحن بضاعة نجني له المال، لا أكثر ولا أقلّ.
عندما تخرجتُ من جامعتي، التحقت حينها في عملٍ كان يفرِض عليّ الاختلاط بشكل كبيرٍ مع المعلمين، ولكن هذه المرة من منظورٍ آخر، فأنا لست طالباً هذه المرة، بل صديقا وزميلاً لهذا المعلم الانسان، الذي اكتشفت أخيرا وانا ابادله اطراف النقاش، أنه يحمل في داخله وبصدقٍ همّا كبيرا اتجاه طلابه، الذين يرى فيهم محطاً لتلك الرسالة السامية التي يحملها منذ أعوام.
مرّ عامٌ آخر، وجاءني اتصال من العمل، يقول لي توجه إلى مقر مجلس الوزراء في رام الله لتغطية اعتصامِ المعلمين هناك، وبالفعل انطلقتُ متوجها الى هناك وكأنه يومُ عملٍ عادي، ومع وصولي بدأت بإجراء المقابلات مع المعلمين المعتصمين، حتى وصلت إلى إحدى المعلمات القديرات، وسالتها، ما هي رسالتكم من هذا الاعتصام؟ لتجيب بِحُرقة: "أنا حاصلة على شهادة بكالوريس في الهندسة، وماجستير في الاشراف التربوي، ولي 15 عاما في وظيفتي، وراتبي الأساسي 2300 شيكل"!!، صَمَتَت قليلا ثم قالت هل من الضروري ان ابعث الان رسالة؟!
فعلا لا رسالةَ من بعدِ هذا الكلام، هذه المعلمة جعلتني أشعرُ بمدى الأنانيةِ التي كنتُ أفكر بها أعواماً طويلة، كيف لي أن أُعيب على معلمي أن يعمل لساعاتٍ في غير عمله الرسمي وهو يتقاضى راتبا لا يُمكنّه من إعالة عائلةٍ مكونة من ثلاثة اشخاص، فما بالكم بمعلمٍ يعيل سبعة اشخاص بأقل من الراتب المذكور أعلاه؟!هذه المعلمة جعلتني أشعر بمدى العجز في التفكير الذي يرى في هذا المعلم أنه منبعٌ للحقدِ والكراهية، ولم يرى فيهِ أنه مستودعٌ للظلم والاستغلال من قبل مُشغليه.
اليوم، وأنا أرى عظمة هذا المعلم الفلسطيني، الذي يكسرُ كل القيود التي جعلته رهينةً للاستعباد طوال الاعوام الماضية، ويرفعُ شعارَ الكرامة رُغم كلِّ من يحاول سلبها منه، أقرّ واعترف وانا بكامل قواي العقلية، أن مهنة المعلم هي أشرفُ وأنبلُ مهنةٍ على وجه هذه العمورة، وأن المعلم الفلسطيني يستحق منا كل الحب والاحترام والتقدير، وهو على ثغرٍ من ثغور الإعداد و الجهاد.
مُعلمي، وبكل فخر أنحني إجلالا وإكبارا لكَ على كُلِّ كَلِمةٍ عَلَمتني إِياها.