النقب المحتل- قُدس الإخبارية: لا شك في أن الآبار لعبت دورًا عظيمًا ومهمًا في حياة الإنسان الأول، وكانت عنوان مميزًا للحضارات الصحراوية وعنفوانها، والأمم التي كانت تجيد حفر الآبار والتحكم في الموارد المائية كانت هي غالبا الغالبة والمسيطرة، فالماء كما هو معروف عصب الحياة، والذي لولاه لما كانت هناك حياة.
في بادية بئر السبع، عاش الأهل جُل حياتهم وهم يبحثون عن الماء، من اجل وجودهم وكيانهم، وكانت القبائل العربية في النقب، إبان الحكم التركي ومن ثم الاحتلال البريطاني الغاشم، تُعرف بموقعها عبر مائها، أي أبارها وهرابها، فسميت مصادر المياه بالمناطق التي تتبع للقبيلة، وحددت هذه المواقع المائية بين القبائل ، وجاء سيلان الماء في مناطق ما، كحدود بين الأراضي ضمن العشيرة نفسها، ووصفوا الحد بـ"مسيل الماء"
وانتشرت الآبار والهراب في النقب بكثرة، ولا بد لمن يمر عبر أراضي النقب، أن يشاهد وجود هذه الآبار والهراب في كل مكان، دلالة على العمق التاريخي لوجود الأهل في النقب منذ زمن طويل جدا، يصعب قياس زمانه، واليوم رُدم الهراب، وجف ماء الآبار بفعل مقصود، وأضحت شركات الماء تستخدم مياهها الجوفية، مما أدى الى فراغها من مائها
لم يعد أبناء النقب يهتمون بالآبار التقليدية، ولا يعد ذلك تجاوزا لذواتهم بقدر ما هو سلوك أملته عليهم ظروف التمدن والارتقاء المعيشي بعد انسلاخ حقبة الفقر والإملاق الحضاري التي خاض غمارها أجدادهم. نعود في هذا التقرير، إلى سنوات البحث عن الماء في بادية بئر السبع، ونعرض ومضات من تلك الفترة التي لا تُنسى.
يقول الحاج سلمان الحجوج، "كنا نسكن في أرضنا في منطقة أبو سماره قبل عام 1948، وكانت بئر فطيس تبعد عنا حوالي 3 كم في الجهة الجنوبية من مضربنا هناك، كانت تقع داخل وادي فطيس، وأذكر أنه في عام 1948 وعام 1947،كنت أذهب مع والدي رحمه الله من أجل جلب الماء من بئر فطيس، عملية إحضار الماء كانت تتم على ظهور الجمال".
وأضاف، "وكنا نحضر الماء من هناك من أجل الشرب، ومن أجل سقاية مواشينا وقطعاننا،كنا نملك جملين وفرس، وقطيعا من المواشي، أذكر تلك الأيام حيث كان الناس بأعداد كثيرة يتجمعون حول البئر من أجل إخراج الماء منها، كانوا يسقون قطعانهم حول البئر، أذكر فوهة البئر، لقد كانت واسعة بعض الشيء، وهذا الأمر ساهم في نشل الماء لعدد من الناس في آنِ واحد".
"كان لا بد من الانتظار في بعض الأحيان عندما يكون عدد الناس كثير، ماء بئر فطيس عذب جدا، واستخراجه من البئر ليس عسيرا، لقد وردنا على بئر فطيس كثيرا، وكان وادي أبو سماره المشهور، يبعد عنا أمتار قليلة جدا، لكن مياه وادي أبو سماره مالحة، ولا تصلح للشرب، وكانت عبارة عن ثمايل، تقع منها في منطقة غربي خربة أبو شارب المعروفة، بئر فطيس وخربة فطيس تتبعان لعائلة الإفرنجي من قبيلة التياها"، يستذكر الراوي
تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن الآبار تعمل بنظام السقاية، أي لم يكن الأهل يدفعون المال مقابل الماء، والسبب في ذلك أن حكومة الاحتلال البريطاني، أممت قسما كبيرا من الآبار في النقب، حيث أصبح بمقدور الجميع إخراج الماء منها، ويضيف "أذكر أن سلطات الاحتلال البريطاني قامت بتطوير الآبار، وأقامت حيضان حولها، ومنها بئر فطيس والفخاري وكحلة، كذلك أنشأت أماكن للسقاية واسعة حيث يسهل على الناس من أجل أسقاء قطعانهم ويكون بمقدور عدد أكبر من الأهل استخدام البئر".
وعن تفاصيل الآبار هناك، أوضح أن "بئر فطيس بئر عميقة بعض الشيء، وربما يصل عمق البئر حتى 12 متر، وسميت البئر بهذا الاسم في إشارة لخربة فطيس التي تقع فيها البئر،في عام 1948، هُجرنا من أراضينا في أبو سماره، وتنقلنا من مكان إلى أخر، من منطقة إلى أخرى، أذكر إننا سكنا خلال الهجرة الطويلة في منطقة عوجان عام 1951، وكنا نرد الهراب والآبار، وكنت أرد على بئر أبو محفوظ وتقع غربي قرية "عمره" بلدة عومر اليوم، كان عدد من الناس نجدهم هناك يستخرجون الماء من هذه البئر، ونشلنا الماء من أبار كثيرة خلال تنقلنا بعد عام 1948، مثل هراب عائلة الأسد، وهراب أبو لبة، وهراب لعائلة الصانع وأخرى عديدة.
1953 يومها كان استقرارنا في اللقية، هُجرت عشيرة الصانع إلى تل عراد، وسكنا هناك، كنا نرد على البئرين، البئر الطويل، والبئر السفلية،قرب الوادي موقعها، أما البئر الطويل فتقع على صفحة جبل، كان الناس بحاجة إلى الماء خاصة عندما تمحل الأرض،ويضرب الجفاف بحره الشديد على الأهل، فيعاني الإنسان من شُح الماء والوصول إليه، وأذكر أنه في منتصف الليل
وأضاف، "كنا نستخرج الماء من البئرين، حوالي الساعة 12 ليلا كان الأهل، يرسلوني ليلاً بواسطة الحبل من أجل إخراج الماء، كان ذلك في البئر الطويل والبئر السفلية، البئر الطويل، بئر عميقة جدا، وقد تكرر الأمر كثيرا في إخراج الماء ليلا من الآبار، لأن الناس في ساعات اليوم يتجمعون بأعداد كثيرة بهدف الحصول على الماء، وكانت الفترة الزمنية التي نُخرج منها الماء من البئر ليلاً، ربما تستمر لساعتين، يقول الراوي الجحوج "مكثنا نرد الآبار والهراب لسنوات طويلة،حتى تم لاحقاً إقامة مواسير للماء،وأصبح الناس يردون إليها لجلب الماء"
أما الحاج سلطان أبو سمور فقال إن الوصول للماء كان قبل عام 1948 من مصادر عديدة، حيث كنا نسكن في إحدى قطع الأراضي التي ملكناها في الشريعة، في منطقة تسمى العمارة، تقع شمالي وادي الشريعة، وكان الماء من الهيظية، وهي بقعة من الأرض يتجمع فيها الماء
كما كان الحصول على الماء من وادي الشريعة عبر الثمايل، كانت الثمايل منتشرة هناك بكثرة، حيث كان وادي الشريعة يسيل طيلة أيام السنة، وكان ممتئلا بالماء طوال العام فلاينضب أبدا.
وقبل النكبة بعامين أول أقل، أقامت السلطات البريطانية سدا كبيرا هناك، على ملتقى واديين، هما وادي الشريعة وهو الوادي الرئيسي، ووادي المالح والذي يصب في وادي الشريعة، ويأتي من جهة الشمال للوادي، يقول أبو سمور، "أقاموا تفريعات للسد، وأخذوا يرشون السد بمواد كيماوية من أجل القضاء على الحشرات الضارة كالبعوض وغيرها من الحشرات التي كانت تسبب الأمراض للأهالي".
وأضاف، "كان السد الذي أقاموه يمتلئ دوما بالماء، وكان الناس يتجمعون حول الوادي من أجل جلب الماء من هناك، أنا بنفسي قبل الهجرة من الشريعة، وردتُ على ثمايل الشريعة كثيرًا، كان وادي الشريعة لا يبعد عنا كثيرًا من ناحية الجنوب، فكان الأهل يحفرون الثمايل جانب الوادي فيخرج الماء من الثمايل عذبا لا مثيل له".
"كانت مياه وادي الشريعة صافية وعذبة كماء بئر الزميلي، نحضر الماء في جرار من الفخار، ونحملها بعد أن نملئها بالماء على ظهور الأتان،كانت الدلة،وهي علبة نخرج عبرها الماء من الثمايل، كنا نترك القطعان التي نملكها لتذهب وحدها من أجل شرب الماء من الوادي، ومن الثمايل"، يروي أبو سمور.
واستطرد، "كانت بعد أن تسد رمقها من العطش، كانت تعود وحدها للبيت، والماء هو الحياة والوجود، كان أمان ومحبة وحياة طيبة بين الناس، كنا نشتري جرار الفخار من قرية المحرقة، وغزة وبئر السبع، وأذكر أن بعض التجار قد سكنوا المنطقة ويبيعون الجرار في الدكاكين
واستذكر تاجرًا تأجر محل في بايكة أبو حامد (حكوك)، يدعى أبو العبد وكان من مدينة غزة، وكان له دكان يبيع فيه اللوازم والمؤن، ومنها الجرار، وكان أيضاً يبيع الأقمشة وأصنافا من المواد الغذائية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، كانت المقايضة إما بالمال، أو عبر القمح والشعير وأمور أخرى، ودكان لرجل تاجر من أصول غزاوية، وافتتح له دكان في بايكة المرحوم سلمان المرابي،
كما انه أثناء المطر الشديد، كانت هناك حفرة واسعة جانب البيوت في الشريعة، وكانت تمتلئ بالماء أثناء هطول المطر، وهي أقرب إلى الثميلة في هيئتها، ويوضح أبو سمور، "منها نحصل على الماء في المطر الشديد، فالثمايل ليست عميقة، وهي ربما يصل عمقها لأقل من متر، وكان الكثير من الناس يصعب عليهم الحصول على الماء بسبب بُعد المسافة بينهم وبين مصادره، فكانوا يأتون من مناطق بعيدة جدا إلى الشريعة من أجل الحصول عليه".
أما الحاج ناصر أبو بنية من وادي النعم فقال، "في أراضينا التي نملكها، كان لنا هراب، نتشر في محيطنا الذي نسكن فيه، منه في منطقة وادي النعم، كانت لنا بوايك بالإضافة إلى مغارة مازالت حتى يومنا هذا، بالإضافة إلى سدود منتشرة في المكان وردت قبل عام 1948 وبعده".
كان ذلك أيضا قبل الهجرة، أحد الآبار لعائلة عربية من بئر السبع، يضيف، "كنا نخرج ليلا ونسري من أجل الوصول للماء في السبع، كانت أيام صعبة، وأيام كان فيها الجفاف يضرب خيوطة على المنطقة، وخلال موسم الحراثة، وموسم الحصاد، وبسبب انشغالنا في العمل، كنا نسري ليلا من أجل جلب الماء من الآبار والهراب".
كما استذكر، "تلك الأيام عندما كانوا ينزلونني الأهل ليلاً من اجل إخراج الماء من هناك، أنزلوني بالحبل لكي أخرج الماء لهم من الهرابة، ولم يقتصر إخراج الماء ليلا، بل كان الأهل يدلوني في الهراب والآبار حتى في وضح النهار، كانت أيام قاسية جدا وكان الحصول على الماء مهمة شاقة ليس كما هو الحال اليوم، لقد تبدلت الأحوال وأصبح الحصول على الماء يسيرًا جدًا".
يتفق الرواة على أنها كانت أيام "خير وبركة" كما يقولون أيضا إن طعم الماء فيها كان زلالًا يشفي العليل، أما اليوم فتم تجفيف مياه وادي الشريعة وانقطع عن السيلان إلا في فصل الشتاء، ولم تعد مياهه صالحة للشرب كما كانت.