تجولت كعادتي في الحساب الشخصي للشهيد حسين أبوغوش بحثا عن ما يمكن أن يُقال حول فدائي نفذ عملية ثم ارتقى، فكان أبرز ما رأيت منشورا يتحدث فيه عن نيته صيد النيص مع صديقه إبراهيم علان، وهو رفيقه في العملية الفدائية، وكان الموعد المحدد يوم الإثنين وهو ذات اليوم الذي نفذا فيه العملية.
فكرت كثيرا في العلاقة بين النيص والمستوطنين! وسألت أصدقائي عن الدلالة المحتملة لاختيار "صيد النيص" كتعبير مبطن عن العملية التي قرر الشهيدان حسين وإبراهيم تنفيذها في عمق مستوطنة إسرائيلية، تعددت الأفكار والإجابات لكن نتيجتها كانت واحدة: "الصيادان اتخذا القرار وأعلناه على الملأ ثم نفذاه بنجاح".
لقد أعلن الصيادان قرارهما حتى أمام عيون الذراع الطويل الذي تحدث الاحتلال عن تأسيسه في بداية الانتفاضة لمراقبة شبكات التواصل الاجتماعي والوصول للفلسطينيين الذين ينوون تنفيذ عمليات بشكل استباقي، لكن الإعلان على بساطته يخفي خلفه الكثير من الحقائق التي من شأنها أن تلخص هذه الانتفاضة.
"البوست" المذكور تم نشره يوم الخميس (21/كانون أول) الجاري، أي قبل أربعة أيام من الموعد المحدد لتنفيذ العملية، حينها كانت أخبار المنخفض الجوي القطبي والثلوج تسيطر على اهتمام الشارع الفلسطيني، غير أن ذلك لم يكن له أي قيمة لدى الصديقين الصيادين، فقد قررا "اصطياد النيص" في ذروة المنخفض، دون أن يشك أيا منهما بأن الآخر قد يخذله في لحظة ضعف أو موقف تنهار أمامه جاهزيته للموت.
تساءلت أيضا لماذا اختار الصديقان يوم الإثنين تحديدا موعدا لتنفيذ العملية، قد يبدو هذا السؤال غير مهم أيضا، وربما الموعد ليس سوى صدفة، لكن المهم على الأقل أن الفتى وصديقه الشاب اتخذا قرارهما قبل مدة من الوقت لا تقل عن أربعة أيام، أي أنهما وجدا الوقت الكافي للتفكير والتردد والعزم قبل موعد التنفيذ.
هذا ينسف على الأقل كذبة العالم بأن خبرا ما أو صورة أو تصميما فنيا هي ما تدفع "الشباب الفلسطيني اليائس" لتنفيذ عمليات فدائية، فلو كان الأمر كذلك لوجد الصديقان في الفترة الزمنية غير القصيرة بين لحظة اتخاذ القرار وموعد التنفيذ ما يثنيهما عن العملية.
ويؤكدا هذا أيضا ما علمناه عن الشهيد حسين الذي كان يعمل حلاقا واختار هذه المهنة بقرار مسبق وتعلمها واحترفها، والذي كان كذلك صديقا مقربا من الشهيد ليث الشوعاني الذي ارتقى منتصف تشرين ثاني الماضي أثناء مشاركته في الدفاع عن مخيم قلنديا مسقط رأس الشهيد حسين، أي قبل نحو شهرين من اتخاذ حسين وإبراهيم قرار تنفيذ العملية، وهي فترة كافية ليهدأ الحزن الساخن في روح الصديق على صديقه.
القصة إذن أكبر من ثأر شخصي أو يأس أو لحظة اندفاع يغيب فيها الإدراك نتيجة "التحريض الإعلامي" كما يزعم الاحتلال وضعاف النفوس في المجتمع الفلسطيني، القصة هنا أن وطنا سُلب قبل 67 عاما وتآمر العرب والعجم على أبنائه وألقوهم في المخيم، وتركوهم لعقود تحت عذابات الاحتلال على أمل أن يتحقق يوما وَهْمُ "الكبار يموتون والصغار ينسون".
القصة أن الفدائية أصبحت راسخة في نفوس الكبار والصغار في فلسطين، وأن المقاومة كسبيل وحيد إلى الحرية صارت قناعة أساسية هنا في هذا الوطن، وأن العالم ظل لـ 67 عاما يقدم العلاج الخاطئ لآلام الفلسطينيين، عندما قدم لهم حكما ذاتيا منقوصا وتمويلا لمشاريع "فارطة"، دون أن يدرك أن هؤلاء الذين ولدوا في ظل الحرمان من المعنى الكامل للوطن، لن يهدأ لهم بال حتى يحصلوا على حرموا منه أو يُقتلوا دون ذلك.
سيعقد المجتمع الدولي وشركاءه من "العرب المعتدلين" المؤتمرات مجددا، وسيبحثون مرة أخرى عن حلول سلمية، وسيواصل الاحتلال تقديم تصاريح العمل للفلسطينيين وربما يزيد من ذلك، لكن الكلمة الحاسمة في هذا الصراع لن تكون إلا لأولئك الذين لم يستطع العالم فهم فلسفتهم عن الحياة والوطن.