أعتقد أنه آن لنا أن نتعلم من غيرنا وأنه لا بد لنا أن نسترشد بتجارب الآخرين، إننا اليوم نسبح في بحر الجهالة والضياع، و ذلك لأسباب كثيرة أهمها غياب الوعي الثقافي البناء، فالجانب الثقافي في الحروب والثورات يشكل أساسا لا يجب الاستهانة به من الناحية المعنوية والتعبئة النفسية الفكرية في الأسس الثورية.
وإهمالنا للجانب الثقافي الذي يصقل الشارع الفلسطيني بالثقة واليقين والصبر المسلح بالإرادة ما زادنا إلا تشتتا وضياعا وعشوائية في اتخاذ القرارات، وتشتتا في مواجهة المواقف المصيرية أيضا، حتى صرنا نعاني الضياع البارد الملتف بالخيبة والخذلان، جراء خطوات كثيرة قام بها الاحتلال الصهيوني، كان مجمل تأثيرها علينا فقداننا الثقة و انسلاخنا عن ذواتنا.
إننا في مواجه جيش منظم يحسب خطواته بالميزان، ولم تكن عمليات الاغتيال لرموز الثقافة الفلسطينية قبيل حرب بيروت عملا عبثيا، بل كانت خطة منظمة ومدروسة بدقة، ولو تأملنا طبيعة التغير الجذري بعد حرب بيروت لأدركنا هذا جيدا.
فحالة التشتت والضياع بعد الحرب كانت نتيجة لغياب هذه المنارات الثقافية المرموقة التي تتمثل بخروج المنظمة من بيروت، والتي أشار إليها الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدة مديح الظل العالي، وتراه يصرخ وهو يقول: "بيروت لا".. فقد أدرك درويش مبكرا أن القضية الفلسطينية تسير في ممر ضيق الآفاق فقال في نفس القصيدة "ما أوسع الثورة.. ما أضيق الرحلة.. ما اكبر الفكرة.. ما أصغر الدولة".
وليس من الغريب على المثقف أن يرى ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد، ذلك أن المثقف هو زرقاء اليمامة التي ترى ما لا يُرى، ولهذا السبب كان دوما المثقف شريك المناضل والسياسي لأن له بصيرة نافذة ترى الخطر وتستشعر قدومه، ولأنه سهم البوصلة التي تشير إلى الاتجاه الصحيح.
لنتوقف قليلا عند كلمة الحكيم جورج حبش: "إن المقاتل غير الواعي سياسيا كأنما يوجه فوهة البندقية إلى صدره"، والتي جسدها على الأرض بإرسال المناضلين الجدد إلى الأديب الراحل غسان كنفاني قائلا لهم: "إن غسان من سيقوم بإعطائكم الكلاشنكوف".
لو تأملنا هذا الموقف على سبيل الذكر لا الحصر؛ لأدركنا أهمية الوعي السياسي والثقافي للمناضل، وكيفية التجهيز النفسي والثقافي والفكري قبل التجهيز الميداني، وذلك لان الجانب الثقافي يصير نفس الثائر إلى شجرة من السنديان جذورها متأصلة في ارض الوطن، مهما تعرضت الأوراق و الفروع والأغصان وحتى الجذع، ومهما تعرضوا للعواصف العاتية تبقى الجذور التي مدتها الثقافة فينا متأصلة ومتمترسة في أنفسنا الثورية.
لعلنا إن تأملنا التجربة الروسية مع القناص "فاسيلي زائييف" التي جعلت منه صحيفة الجيش الأحمر بطلا قوميا إبان الحرب العالمية الثانية، وكيف كانت النتائج بعد أن تحالف الكاتب الصحفي مع الجندي المدرب، وكيف تم استثمار النتائج العسكرية في مقالات أدبية كانت وظيفتها الأولى إعادة بناء الثقة والروح المعنوية لدى الجيش الذي كان وقتها قد شارف على الانهيار في مدينة ستالينجراد، لكن اتحاد الكاتب مع الجندي اتحادا تكامليا يجعل من النصر هدفا سهل المبتغى.
اعتقد انه قد آن لنا أن نجعل ثورتنا هذه ثورة تسترشد بآراء المثقفين، المثقفين الذين اتسعت لهم المنافي وضاقت بهم أوطانهم.