كتب: حمزة أسامة العقرباوي
للفلسطينين تقويمهم السنوي الذي يُعبر عن ثقافتهم وهويتهم وارتباطهم بالأرض، وتقويهم يختلف عن تقويمات السنة المعروفة ميلادية وهجرية. فتقويم الفلاحين يبدأ في شهر أيلول وأيلول ذو الذيل المبلول على رأي المثل. ذلك أن هذا الشهر يُنهي موسماً ويُقدم لنا موسماً، ففي أيلول نودع موسم القيض (التين والعنب)، نودعه ونحن ننشد:
التـيـن قَـرقَـع وَرَقـُه .. واللـي يحبُّـهُ يلحَـقَـهُ
التين قَرقَع يا ورشة .. يا ويل اللي كِبر كَرشُه
فينتهي موسم التين والعنب وعلى رأي المثل (اللي ما شبع من العنب والتين بشبع من ميّة تشرين)، ونستقبل عاماً فلاحياً جديداً، إذ تهلُّ علينا (شتوة المساطيح) تلك التي تُعلن بداية السنة في التقويم الفلاحي لأهل فلسطين، لندخل بعدها في الاستعداد لموسم مبارك وهو أول موسم (موسم قطف الزيتون).
وشتوة المساطيح هي شتوة صغيرة تكون نُقط أحياناً ولذا يقولون عنها (شتوة النقطه). أو (شتوة الصليب) لأنها تأتي بعد عيد الصليب 14 أيلول حسب التقويم الغربي أو 27 أيلول حسب التقويم الشرقي، وبعدما يكون الزيتون قد نضج وصلبت حبته وصار ينفع للتخليل.
وهناك من يدعوها بشتوة (منبهات الرعنة) لأنها تنبه المرأة الكسولة التي تأخرت عن اصلاح البيت وتطيينه ودهنه بالشيد وصبغه بنبات الطيون ذو الرائحة العطرية. تلك المهنة التي تنفذها النساء بالعادة قبل شتوة المساطيح، فتنزل للبيوت وتصلحها استعداداً لاستقبال أهلها الذين ارتحلوا عنها في موسم الربيع والقيض وسكنوا في بيوتهم الصيفية في كرومهم العامرة بالخيرات. فهذه الشتوة (منبهات الرعنة) تذكرها بان الوقت يُدركها. وهُناك من يدعوها بشتوة الذبانه (الذبابه) لكثرة انتشار الذباب على مساطيح التين التي لم تُجمع بعد من الكروم.
والمسطاح في اللغة موضع تجفيف الفاكهة والثمار، وفي بلادنا يبنون بجانب البيوت الصيفية (النواطير/القصور) قُصّة مُرتفعة عن الأرض قدر متر من الحجر ويرصفوها بحيث تكون مُستوية ويفرشوها بالحصى الصغير والتراب، ويتم وضع التين والعنب لتجفيفه في الموسم، ليتحول الى قُطّين وزبيب.
أما شتوة المساطيح فسميت بذلك نسبة لمسطاح التين، ذلك لأنها تنزل والفلاحون في البيوت الصيفية (القصور/ النواطير) وتينهم المُجفف لا يزال عَلى المُسطاح.
فيعمد الفلاحون لجمعه بعد هالمطره، ويستعدون للانتقال الى بيوتهم في القرى، ومعهم القُطين ليضعوه في الخوابي أو يعلقوه في قلايد، والمثل بقول: (إن أجا الصليب روح يا غريب) أي إذا حلّ عيد الصليب فليرجع المعزبون في الكروم إلى بيوتهم في القرى.
وبعد هذه الشتوة لا مجال لتسطيح التين في المساطي، ويمسك كُل فلاح على تينه حتى يبيعه (خلّي القطين في خوابية تا ييجي مشتريه). أو يخزنه ليأكله في الشتاء (اللي في جيبه قطين بوكل في أيديه الثنتين).
وينشد الفلسطينييون في وداع موسمهم قبل الارتحال الى قُراهم:
خلـص مـسـطاح التـيـن والتمّ .. وأنا ان بكيت عَحالي ما بلتام
ســـاق الله يا زمان التيـن نلتـمّ .. وأزورك يا لمشـطب ع َالنـدا
يا طـير طـايـر ميّـل عالـوادي .. وجيبلي من كرم العنب زوادي
شـوية زعتر مع تين ســوادي .. وزيـت مـرتب وحبّـة زيتـونا
يا بلادنا يا ام العنب والتين .. عدونا يرحل واحنا اللي مقيم
وفي المثل قالواعن هذا الانتقال الاجباري مع بدء العام الجديد في تقويم الفلاحيين (عَيّد واطلع، صَلّب وادخل) أو (خَمِّس واطلع، صَلّب وخُش) : أي عَيّد في عيد البيض في شهر نيسان (شهر الخميس) في الربيع حين يتفتّح ورق العنب والتين ويكون الربيع قد كسى الارض، واطلع من بيتك للكروم واسكن في النواطير، أما في عيد الصليب وهطول مطرة المساطيح ادخل الى بيتك واترك الناطور في الكروم لاقتراب المطر والبرد.
وبعد شتوة المساطيح وبدء التقويم الفلاحي يكون الخريف حسب تقسيمنا للفصول قد حل ويقول المثل الشعبي "مالك صيفيات بعد الصليبيات" لاختلاف الجو فتصبح درجة الحرارة في انخفاض، وفي الخريف على قولتهم: (لما يطلع الخريف ادارى في الصريف) ولأن (الخريف بخلي القوي ضعيف) .
في هذه الاجواء بعد شتوة المساطيح يكون الفلاحون قد غادروا كروم العنب والتين وتركوا بيوتهم الصيفيه (القصورالنواطير) وسكنوا بيوتهم في القرى وبدأوا في نهاية ايلول بتجهيز أنفسهم لموسم مبارك (موسم الزيت والزيتون)، ففي هذا الشهر يكون موسم الزيتون قد دقت ساعته واقتربت لحظة البدء به، والأمثال تصف الزيتون بشهر أيلول: (ايلول دباغ الزيتون) و(في ايلول بيدور الزيت في الزيتون والمر في الليمون).
وهكذا نكون بدأنا العام الفلاحي الجديد في فلسطين ودارت رحى المواقيت مُرتبطة بالأعياد والمواسم طوال هذا التقويم، الذي يكاد يندثرُ عندنا مُتابعته والاهتمام به والحرص على تدوينه والتأريخ به.