مالكوم، شاب صغير السن ببشرة سوداء وشعر أحمر أملس من جرّاء حرقه "بالرماد الحار"،وهو مكوّن اخترعه الشباب الزنجي ليحوّل الشعر المجعّد الذي هو سمة للسود في أمريكا إلى شعر حريريّ مثل الشعر الذي يملكه الرجل الأبيض، يتجوّل في أنحاء هارلم (حيّ الزنوج في نيويورك) كتاجر للمخدرات حيناً، مخُدّر وسكران في أحيانٍ أخرى، وكلص يسطوا على البيوت بالسلاح في بداية العشرينيات من عمره، إلى أن أوصلته هذه المغامرة إلى السجن وحكم عليه بأكثر من ثماني سنوات.
هائم وضائع بلا هدف أو مستقبل ،وبلا هويّة يعرّف بها ذاته، لا يملك أدنى فكرة عمّن هو أو ماذا يفعل؛ كلّ ما كان يهمه هو اللذة السريعة في اللحظة الآنية. مشاكل ومعارك بلا أي سبب حقيقي، قفزات في الهواء يقوم بها تحت تأثير اللاوعي من أجل التشبه بالرجل الأبيض، حياته كانت عبارة عن سلسلة مستمرة من ردود الفعل التي يحكمها اللاوعي، أي لم يصدر عنه فعل واحد يعبّر عنه (هو) أي بوعيه الذي يعطيه كينونته الخاصة. في السجن عندما جاء القسّ ليزوره ردّ عليه مالكوم بلسان حادّ جعله يفرّ هرباً من هذا الشيطان الأحمر، وهو اللقب الذي اشتهر به مالكوم في وسطه القديم بسبب شعره الأحمر. وفي ظل هذا الضياع والتشظّي، وفجأة، كما يقول غسان كنفاني:"لا تصدق أن الإنسان ينمو. لا. إنه يولد فجأة: كلمة ما، في لحظة، تشق صدره على نبض جديد، مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق".
آفاق مالكوم على حقيقة أذهلته فما استطاع لها وصفاً، وما كانت هذه الحقيقة إلا كما قال من أعطاها له: أن لا أعطيك سوى المعرفة التي تستطيع بها أن تعي ذاتك؛ وهي معرفة لا يستطيع أي شخص أن يسلبها منك إذا حصلت عليها.
إنّ الوعي الذي نقصده هنا عبّر عنه شريعتي بمصطلح النباهة؛ وهو وعي الإنسان باللحظة التاريخية التي يعيش فيها واستيعابه لتغيّرات وخصائص مجتمعه الذي يعتبر نفسه امتداداً له. أن تكون واعياً يعني أن تعرف من هو عدوّك، وقد يسير الأمر بطريقة عكسية كما حدث مع مالكوم، فكان اكتشاف العدو الأساسي هو الطريق للبحث واكتشاف الذات.
فالمعرفة بقوانين التاريخ والتغييرات المجتمعية تجعلك قادراً على ترتيب الأولويات بما يتناسب مع البيئة التي تعيش فيها، وأساس هذه الأولويات هو اختيار العدو المركزي ومعركتك الرئيسية. وأي محاولة لخلط هذه الأولويات هي دعوة للخيانة، حتّى لو كان تغيير الترتيب يخضع لأمر مقدّس في ظاهر الأمر، وهذا ما عناه شريعتي بالمصطلح النقيض للنباهة ألا وهو الاستحمار.
إن وجود الشيء لا يعني بالضرورة حدوث شيء آخر كردّة فعل، وجود مشكلة الفقر لا تعني الثورة على الأغنياء، وقد تبقى هذه المشكلة موجودة للأبد، وهنا يأتي المثقّف الواعي، فهو من أجل التغيير يتحوّل إلى داعية، وهذا العمل بالضرورة يعني تحويل هذا الشيء الموجود إلى الوعي، فتصبح هذه المشكلة محسوسة قابلة للانتقاد ومعرفة أسبابها بينما كانت مختفية جرّاء تغييبها عن الوعي الجمعي. بكلمات أخرى؛ إن المثقّف الواعي يعمل على نقل وعيه إلى المجتمع حتى يصبح المجتمع واعياً ونبهاً.
أن تكون واعياً بذاتك عارفاً لما يدور حولك، يجعلك حُراً من القيود المعرفية التي يحاول الطرف الآخر إخضاعك لها، فالوعي هو بالأساس تحرّرٌ معرفيّ، وهنا نستطيع أن نشاهد كيف استطاع مالكلوم بلغته اللاذعة الذكية أن يناور القيود التي تحاول النيل من نضاله على شكل تصنيفات وأسئلة، فقد تمّ سؤاله أكثر من مرة حول أنه يدعو للعنف، وهُنا يُراد بالعنف الذي هو معاكس للوسائل السلمية، فما تزال هذه الأسئلة هي أسلحة توجّه وبقوّة حتى اليوم لكل من أراد أن يقود حركة نضالية، إلى درجة أن بعض الحركات اليوم تفتخر بأنّها تتبع الأساليب السلمية وكأنّها تهرب من اتهام قذر.
تقوم الدول الكبرى بمئات العمليات والمعارك ضد الشعوب الفقيرة والمٌستضعفة بدون أن نسمع أي كلمة حول أن هذه الوسائل كانت عنيفة أو سلمية، بينما في حال قرّر الشعب المُستضعف أن يثور على الظُلم نجد أن هذا السؤال يتم طرحه على الثائر فوراً وكأنه اتهام، هل أنت تدعو إلى العنف؟.
مالكوم لم يصنّف دعوته يوماً (بين السلمية والعنف)، بل كان مشهوراً بترديد هذه الجملة: "بأيّ وسيلة ضرورية". هذا يعني أن تقوم بالعمل ولا تنشغل بأسئلة ليس منها هدف سوى ثنيك عن هذا العمل، في الوقت نفسه الذي يقوم الطرف الآخر بنفس العمل بدون أي تبرير أو تنظير.
في الحالة الفلسطينية قد يكون الوعي فطري مُستقى من علاقات القوى المباشرة على الأرض، فالفلسطيني ليس بحاجة إلى معرفة ثقافية تؤهّله لمعرفة عدوّه الحقيقي، فرؤية الحاجز على الطريق أو الشعور بالتهديد كما حدث في حالة الفلاح قبل النكبة، حيث ثار الفلاح على الاستعمار عندما أحسّ أن أرضه في خطر. إلا أنّ العمل على الوعي وتشويهه من خلال مؤسسات وثقافات تعمل على إغراق الفلسطيني في معارك جانبية ووعي بعيد عن العدو والمصلحة المجتمعية، كل ذلك يضع حملا على المثقف الحقيقي عليه أن يرفعه وأن ينزل بفكره إلى الشارع حيث يكون نشاطه الاجتماعي داعماً لنشاطه الفكري.
في كتاب "اغتيال العقل" تحدّث برهان غليون عن الثقافة بصفتها الوعي الذاتي للمجتمع، أي وعي المجتمع بنفسه وبالتاريخ وبما يدور حوله، والوعي هو الخلاصة الذاتية لكل ثقافة أو روحها وثمرتها. وإن من يستطيع التحكم بهذا الوعي يمكنه أن ينفذ إلى كافة مرافق هذا المجتمع وتدميره من الداخل، لذلك كان الغزو الفكري من أخطر أشكال الغزو.
فالمجتمعات التي تفقد ثقافتها تنصهر في الآخر وتبقى تابعه له حتى بعد التحرر من الاحتلال العسكري، بينما المجتمعات التي حافظت على ثقافتها ووعيها، استطاعات أن تصمد في وجه الصهر والتحلّل، وأن تخرج بعد حين لتتحرّر من الاستعمار مستندةً على هوية تعبّر عن عنها.
نظر مالكوم من نافذة جامعة من أشهر الجامعات الأمريكية حيث كان يلقي محاضرة للطلاب، فقال لهم: قبل عشر سنوات كنت على الجهة المقابلة من هذا الحائط أبيع المخدرات.
مالكوم إكس، إكس هو اسم العائلة الذي اختاره مالكوم ليكون بداية لأنسان جديد كان قد ولُد منذ اللحظة التي وُلد فيها وعيه، وهذا ما قد تحدث عنه فرانز فانون حول كون إنسان جديد يُخلق أثناء التحرّر.
بينما يحاول الكثيرون التبخيس من أهميّة الوعي، قال غسان كنفاني: "إذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فان البندقية ذاتها تنبع من ارادة التحرير". ويمكننا القول بعد كلّ ما ذكرناه بإنّ إرادة التحرير تنبع ولا شك من الوعي، وليس من قبيل الصدفة أن من ذكرناهم في هذه التدوينة -غسان، مالكوم وشريعتي- قد تمّ اغتيالهم، فهذا دليل على أن العدو يأخذ معركة الوعي على محمل الجد.