أول ما فكّرَت به الحركة الصهيونية منذ نشوئها في أواخر القرن التاسع عشر هو إيجاد جسم إعلامي يوصل رسائل الحركة الصهيونية إلى كافة اليهود، ومنذ ذلك الحين بدأ الإهتمام اليهودي والصهيوني بإنشاء الصحف الورقية ثم الإذاعات في النصف الأول من القرن العشرين وما قبله، ثم القنوات والتلفزيونية في النصف الثاني من القرن العشرين، ثم الإعلام الرقمي منذ بداية الإنتفاضة الثانية، ولا يمكن حصر عدد وسائل الإعلام هذه المستمر أغلبها حتى الآن لأنها بجميع أنواعها تتعدى آلاف الوسائل الإعلامية والمؤسسات.
كل هذا السبق في إيجاد البنية التحتية الإعلامية للحركة الصهيونية ودولة الإحتلال لاحقا "إسرائيل"، مكّنها من تحقيق عدة أهداف إعلامية وأن تسيطر حتى على العقول العربية وتهزمها بالإعلام، والإشاعة، كما حدث في حروب 1948 وما بعدها. وقد تميز الإعلام "الإسرائيلي" بعدة خصائص تبرز خلال فترات الحروب، أوردها وأشار إليها الباحثون في هذا المجال مثل باسل النيرب في كتابه "الإعلام الإسرائيلي ذراع الجلاد" وفي كتاب "الصحافة والإعلام في إسرائيل" لأمل جمال ونذكر هنا عددا منها.
حيث اعتمد الإعلام "الإسرائيلي" على إطلاق الإشاعات وتخويف الناس والفلسطينيين تحديدا، وهذا ما ساعده لأن يحوز على لقب أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" في الأيام الخوالي، ثم أسلوب التبرير لكل ما يرتكبه جيش الإحتلال وحكومته من جرائم ضد الإنسانية والفلسطينيين، ثم تهويل الأحداث لصالحه من أجل أن يظهر بصورة معينة أمام العالم، ولا أنسى هنا البراعة في أستخدام أسلوب لعب دور الضحية، وحجب الكثير من المعلومات عن الجمهور ومحاولة جذب القارئ من خلال التلاعب بالنصوص والمحتوى والشكل الإعلامي وطريقة عرض المعلومات.
كل ما ذكر هنا يعتبر من أساسيات وأهم وسائل التلاعب في الرأي العام التي لم يتوقف الإعلام "الإسرائيلي" عن استخدامها منذ بدء التخطيط لتأسيس دولة الإحتلال وحتى آخر حروبها مع العرب والفلسطينيين في حرب غزة عام 2014.
وهنا أشير إلى أنني جعلت هذا الموضوع موضع بحث في رسالتي الماجستير التي كانت بعنوان "تغطية الإعلام "الإسرائيلي" للحرب على غزة 2014؛ صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية كحالة دراسية".
حيث نشرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" 1221 مادة صحفية خلال مدة الحرب وهي 51 يوما، حلل الباحث منها 116 مادة صحفية كعينة مستهدفة، وللوصول إلى نتائج حقيقية للدراسة وضع الباحث 11 سؤالا بحثيا تمت الإجابة عنها في نهاية الرسالة، ويمكن تقسيم نتائج الرسالة من خلال العناوين المرفقة.
تحليل شكل المواد الصحفية
تميزت المواد الصحفية التي نشرتها "يديعوت أحرنوت" على موقعها الإلكتروني خلال فترة الحرب أن 80% منها تضمنت تصميما في رأس الصفحة يعبر عن مجريات الحرب(Banner)، إضافة إلى 21% من المواد تضمنت تصاميم توضيحة وإنفوغرافيك، و 75% من المواد الصحفية كانت تتضمن فيديو توضحي للأحداث، بينما 98% منها تضمنت صورا توضيحية حول الأحداث الجارية، كما كانت أغلب المواد الصحفية المنشورة طويلة، أي أكثر من 250 كلمة منها 52% اكثر من 500 كلمة، كل ذلك قادر على أن يجعل المواد الصحفية أكثر جذبا للقراء وتأثيرا عليهم لمتابعة أخبار الصحيفة.
تحليل مضمون المواد الصحفية
وكان تركيز مضمون الصحيفة على المواد الأمنية والعسكرية بنسبة 52% استخدمت لاستعراض القوة "الإسرائيلية" والحديث عن مسار الحرب والأضرار "الإسرائيلية". وفي ذات السياق اعتمدت "يديعوت أحرنوت" في مصادرها الصحفية في أغلبها على المصادر العسكرية، أي جيش الإحتلال ثم حكومة الإحتلال ثم "الإسرائيليين" بنسة 75%، وكان هنالك تجاهل واضح للمصادر الفلسطينية خلال تغطية الحرب، وهذا ما أدى بدوره إلى جعل الصحيفة تعتمد بشكل أساسي على الرواية "الإسرائيلية" للحرب من جهة واحدة.
الأهم من ذلك أن 66.5% من المواد الصحفية تضمنت تبريرات واضحة لعمليات جيش الإحتلال ضد الفلسطينيين، ولقرارات حكومة الإحتلال خلال الحرب، وكانت مصطلحات "حماس" و "غزة" أكثر الكلمات تكرار في الخطاب الإعلامي "الإسرائيلي" في محاولة لتوجيه الرأي العام وتحريضه على غزةـ واعتبار أن كل من فيها هم حماس و"لإسرائيل" الحق في مهاجمتهم.
أيضا في تحليل مضمون صحيفة "يديعوت أحرنوت" نجد أن المواد التي كانت تنشر هدفت إلى تصوير "إسرائيل" على أنها دولة ضعيفة، راحت ضحية صواريخ غزة، أو تعبئة "الإسرائيليين" ضد غزة والتحريض على غزة وحماس، أو كانت تهدف إلى تبرير عمل أو جريمة "إسرائيلية" أو موقف حكومي ضد الفلسطينيين، كل ذلك كان بنسة 62% من أهداف مواد الصحيفة. وفي نفس الوقت نجد أن 65% من مواد صحيفة "يديعوت أحرنوت" كانت تتضمن صورة "لإسرائيل" على أنها ضحية أو دولة ضعيفة يتم مهاجمتها من قبل الفلسطينيين.
أيضا كان ملاحظا أن الصحيفة والإعلام "الاسرائيلي" بأغلبه قدم المعلومات والمواد الصحفية بطريقة أنسانية وعاطفية حيث أن 36% من مواد الصحيفة كانت تتعمد إثارة عواطف القراء، وتعرض قصص "إسرائيلية" إنسانية. هذا إلى جانب أن 73% من مواد الصحيفة كانت تدعم الحرب على غزة ضد الفلسطينيين.
ومن أبرز النتائج أيضا أن الصحيفة ركزت على عرض الخسائر "الإسرائيلية" في الحرب رغم قلتها وبساطتها مقارنة مع الخسائر الفلسطينية، فكان عرضها بنسبة 49% بينما تم تجاهل الخسائر الفلسطينية التي كان ذكرها بنسبة 20% فقط.
التأثير الإعلامي لنوع التغطية الصحفية
صحيفة "يديعوت أحرنوت" كانت متعمدة تغطية الحرب بهذه الطريقة والتي من خلالها طبقت ثلاث نظريات إعلامية مثبتة تم اختبارها خلال البحث، أولا: نظرية ترتيب الأجندة والتي من خلالها ترتب الصحيفة أولوياتها الإعلامية والمواضيع التي تركز عليها من أجل التأثير على الرأي العالم وجعله يفكر فيها فقط وحسب ما تريد وتنشر.
ثانيا: نظرية حارس البوابة وتعني أن يتحكم مجموعة من الأشخاص أو أجهزة الرقابة الإعلامية بما ينشر أو يرفض بناء على أيديولوجيات وأهداف خاصة، بهدف حجب معلومات عن الجمهور من شأنها أن تؤثر سلبا على رأيه العام، وإعطائه معلومات تدعم الآراء الموجودة لصالح أيديلوجيات مالك الصحيفة ومن يتحكم في الإعلام في الدولة وهذا ما يحدث في "إسرائيل".
والنظرية الثالثة كانت نظرية تحليل الإطار الإعلامي وتعني تقديم المعلومات والأخبار في إطار إعلامي معينـ وبشكل ووسيلة إعلامية معينة، من أجل زيادة التأثير وجذب القراء واستخدام تقنيات التلاعب بالنص، من أجل ايصال المعلومات من وجهات نظر معينة، وهذا أيضا ما طبقته صحيفة "يديعوت أحرنوت" "الإسرائيلية" ويطبقه جزء كبير من الإعلام "الإسرائيلي".
توصيات الرسالة
أوصى الباحث في نهاية رسالته أنه يتوجب على المؤسسة الإعلامية الفلسطينية إنشاء وتطوير مؤسسات إعلامية متخصصة في الإعلام "الإسرائيلي" بحيث ترد على كل ما ينشر فيه وتحلله، وتكون واعية لأسلوب الإعلام "الاسرائيلي" وطريقة عمله وما يبثه من إشاعات، وأن يكون جزء من هذه المؤسسة يقوم على بث وجهة النظر الفلسطينية والحقيقية للأحداث باللغة العبرية "للإسرائليين" أي مخاطبتهم بلغتهم.
كما يتوجب على كليات الإعلام في الجامعات الفلسطينية التركيز على تدريس مساقات متخصصة في الإعلام "الإسرائيلي" وأساليبه وآليات الرد عليه والترجمة منه وغيرها، من أجل تخريج جيل إعلامي واعي وقادر على مقاومة الاحتلال إعلاميا.