مادة خاصة لشبكة قدس يمكن تلمس أثر التمويل الأجنبي الذي يضخ في مؤسسات الشباب على اللغة المستخدمة للتعبير عن الأشياء والمواقف. ويمكنك بفضل محادثة قصيرة، الحكم بعدد ونوعية الدورات التي خضع لها المتحدث، وهل مرّ بدورة القيادات الشابة، أو هل حضرتْ هي ورشات تمكين المرأة، وكم لقاء عصف ذهني شاركا فيه. في هذا السياق، تبرز كلمات مثل "حضاري"، و"حيادي"، و"سلمي". الاقتباسات التالية هي لأشخاص مختلفين تلقوا دورات ممولة أجنبياً، يتحدثون فيها عن تجاربهم، وتظهر في تعبيراتهم آثار تلك اللغة*.
موت السياسة
نادراً ما تجد دورة ممولة تتحدث في موضوع يصب في صلب الاهتمام السياسي للشعب الفلسطيني، بل تجدها تتحدث عن كلّ شيء يمكن تخيله ما عدا السياسة. حتى وإن تطرقت الدورة لمواضيع تتقاطع مع السياسة كالإعلام، فإن اللغة التي تستخدم يتم تحييدها وتفريغها من أي مواقف سياسية وطنية. تقول إ.أ -21 عاماً- عن دورة تدريب تلقتها بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليّة (USAID) : "كنت بتجنب السياسة حتى قبل ما أتدرب، وأي إشي سياسي ما كنت أرضى أطلع فيه، بس صرت أتدرب على التغطية السياسية بطريقة جديدة، وحتى مرة كتبت قطعان المستوطنين فحكتلي ]المدربة[ إنو لأ سياسة المركز ما بتسمح بهيك ولا إنتي بما إنك جاية ع المؤسسة تشتغلي حسب إرادتنا". فجأة يجدّ المتدرب الفلسطيني نفسه أمام الدورة الأمريكية التمويل ليسمع عن تاريخ بلده ولكنه تاريخ فلكلوري منزوع السياسة. تقول (م.ز)23 عاماً عن دورة اعلامية أخذتها في إحدى المؤسسات المموّلة أجنبياً: "كنا نتطرق لمواضيع أخرى زي 10 آلاف عام على مدينة أريحا ولكن لا يذكر أي مواضيع سياسية تطرقنالها، وكانوا يحبو نختار مواضيع تانية زي التحرش الجنسي، وموضوع أريحا ولو صار حدث سياسي نتركه لحاله. أنا كنت شخصيا ابعد عن السياسة وليش ما يطلعو الشباب على اشي تاني غير السياسة؟!". في الاقتباس السابق لا تلاحظ فقط توجيهاً من قبل تلك المؤسسات للشباب، ولكن تلمس كذلك تبنياً كاملاً من قبل بعض هؤلاء الشباب لهذه التوجيهات، والدخول في متاهات تبرير صحتها ومنطقها. كما يظهر هذا التبني الكامل في كلام ن.أ – 20 عاماً – التي تتحدث بشكل مباشر عن مللها من المواضيع السياسية: "إحنا هون ما بنتطرق لموضوع السياسة، إحنا مواضيعنا شبابية، إحنا مش حابين لأنو زهقنا السياسة انو نعمل عن الجدار ]الفاصل[ أو أطفال بتموت وبتبكي. وبصراحة زهقنا هاي الأشياء فبدنا نتجه نحو المواضيع الاجتماعية". وتأثير الدورة لا ينتهي فقط في حدود الواجبات المنوطة بها، بل يمتد ليصبغ انتاج المتدرب في مكان عمله، فهذا أ.خ. – 23 عاماً - الموظف في إحدى التلفزيونات المحلية، يعبر عن فهمه لوظيفته كصحفي ومراسل تلفزيوني قائلاً: "أنا مش مراسل أنا تقني [...] والإنسان المهني هو اللي لازم يشتغل في عمله بعيداً عن أي أي اشي ممكن يأثر على مهنته والحقل اللي هو بشتغل فيه بدون تحزب أو تدخل". أما س. ع. – 25 عاماً – والتي تعمل حالياً في حقل الجرافيكس، فقد كانت أكثر وضوحاً في تأثرها بسياسة التدريب، وعلى أتم الاقتناع بدورها كأداة، وتصنيمها لعملها دون صبغه برسالة سياسية أو أخلاقية محددة. تقول س.ع. :"المؤسسات تبعون [=التابعة] اليو اس ايد ما يحكو في السياسة ولازم ما يكون عندك توجه سياسي، ما كنا نتوجه للسياسة أبدا ابداً وأفضل نكون حياديين وشغلنا اننا لا تذكر هاد ولا نجيب سيرة هاد، وانعكس [هذا] على شخصيتي إني ما ادّخل بالسياسة بالمرة وانا أصلا تخصصي جرافيكس فتلقائياً ابتعدت عن السياسة".
هوس "الحضارة"
تحضر مفردة "الحضارة" وصفتها "حضاري" في اللغة بشكل ملحوظ، وهي غالبا ما تصف فعلا عنفيا أو أي سلوك يؤثر على صورة المحتج "المؤدب" في حضرة الظلم. وتتجاوز هذه المفردة حدود الملتحقين بدورات مؤسسات التمويل، لتنتشر بين شرائح أوسع وكأنها تشكل ثقافة بعينها لها رواد ومنظرون يرددونها في كل مناسبة ذات صلة. ش.ر - 26 عاماً- يقول تعليقا على احراق الإطارات احتجاجاً على سياسات الحكومة الفلسطينية وارتفاع الأسعار: "هذا فعل "غير حضاري" كما أنه يضر البيئة ويسبب التلوث"، وشدد المتحدث في ذات الوقت على حرية الناس في التعبير عن ارائهم ولكن بوسائل سلمية. وأما ع.ق – 25 عاماً – فقد علق على أحداث طردّ القنصل البريطاني من جامعة بيزيت: "إنها طريقة احتجاج "غير حضارية" وتضر بصورتنا أمام العالم، كان بامكان الطلبة أن يتظاهروا بشكل سلمي للتعبير عما يريدون". يقول ش.أ -27 عاماً- تعقيبا على قرار منع "البسطات" في مدينة رام الله: "لا أدري لماذا احتج البعض على هذا الفعل، فهو يجعل مدينتا أكثر حضارية وجمالا في وجه السكان والسياح على حد سواء". ليس غياب السياسة وحضور الحضارة هما السمتان الوحيدتان للغة التي اغتصبها التمويل، إلا أن المقابلات حاولت تقديم نموذجاً للتشوهات التي تمس اللغة في فلسطين، حلت اللغة الجديدة محل تلك اللغة الفلسطينية صاحبة الحق التي تسمي الأشياء بمسمياتها بكل عنف وقوة وباستعارة درويش إنها لغةٍ تُفَتِّشُ عن بينها، عن أراضيها وراويها تموتُ ككُل مَنْ فيها وتُرمى في المعاجمْ. *بعض المقابلات مأخوذة من دراسة قيد النشر: للباحث هاني عواد حول التمويل وانتاج التنكوقراط