فلسطين-خاص قدس الإخبارية: في الوقت الذي تتوقّف فيه عن التطوّر تنتهي. هذه هي طبيعة المعركة المستمرة مع الاحتلال، تصنع نفقاً عمقه 10 متر، يقوم الاحتلال بتصنيع صاروخ يخترق التحصينات على عمق 12 متر، في تلك اللحظة إن لم تقم بزيادة قدراتك وتحصيناتك، فإن حربك القادمة هي آخر حرب تخوضها حتماً. الشيخ خضر عدنان فهم هذا الصراع جيّداً، وعلم أن هنالك نوعين من أدوات الضبط التي يقوم الاحتلال باستخدامها في الصراع المستمر من أجل السيطرة على الشعب الفلسطيني، الأول وهو القمع المباشر الذي يتجسّد باستخدام القوّة المباشرة الظاهرة للأعين والتي يمكن رصدها وتفكيكها؛ كاستخدام الاعتقالات والاغتيالات والتشديد على الحواجز لخنق الشعب. النوع الثاني هو وسائل الضبط الناعمة؛ حيث يتم استخدام أساليب تتراوح بين الترغيب والتسهيل بأنواعٍ شتّى، ويعد أشدّ خطورة، لأن رصده صعب، وما كان رصده صعباً تكون مواجهته أصعب، حيث أن النوع الأول كان على مرّ التاريخ لزاماً لاشتداد المقاومة والعنف الثوري، فكلّما زاد القمع، زاد الصمود والتحدّي.
خضر عدنان الذي تخرّج من الجامعة بشهادة تؤهله للحصول على وظيفة مستمرّة براتب ينتظره كلّ آخر شهر، عرف أن كل هذا ما هو إلا فخ، وأن الوظيفة التي يستطيع الاحتلال التحكم بها ما هي إلا وسيلة من وسائل الضبط الناعم؛ تماماً كالارتهان للبنوك عن طريق القروض السريعة، حيث يصبح الإنسان المُستعبد للوظيفة والمُرتهن للبنك عدوّاً لأي عمل مقاوم يُمكن أن يضرّ بمصلحته الشخصية، ولذلك فضّل الشيخ خضر عدنان على أن يفتح مخبزه الشخصي ليكون حُراً من هذه القيود الخفيّة.
لم تمنعه الاعتقالات المتكرّرة من قبل الاحتلال والسلطة من المشاركة الفاعلة على ساحة العمل الجماهيري، فتجده ناشطاً في كل المسيرات الداعمة للأسرى، حتّى أنه شارك في الإضراب عن الطعام لعدّة أيام تضامناً مع الأسرى أثناء معركة الأمعاء الخاوية التي قامت استشفافاً من تجربته الفردية في إضرابه عن الطعام. هذه الوسيلة التي كان في مقدمتها الشيخ، سلّطت الضوء على الحركة الأسيرة وأعطتها وسيلة من وسائل المقاومة والفاعليّة، فبدلاً من أن تنتظر الدفاع عن حقوقها من الخارج قامت بابتداع وسائل تمكنّهم من مقارعة السجّان ومفاوضته للحصول على مطالبهم الإنسانية.
الكثيرون قد تحدّثوا عن الاعتقال الإداري بتفاصيله ومعركة الأمعاء الخاوية، لذلك ما أريد قوله هنا هو مقارنة بين إضراب خضر عدنان الأول وإضرابه الثاني لنخرج ببعض الدلائل التي قد نعلم من خلالها تفاصيل المواجهة القادمة وشكلها. إن أكثر فارق يتبادر إلى الذهن عند المقارنة بين الإضرابين هو حجم التفاعل مع القضية، فقد نقص نقصاناً ملحوظاً، حتّى كاد ينعدم التفاعل في الإضراب الثاني. فمن هم الأطراف المتوقّع تفاعلهم في مثل هذه القضية؟
المستوى الرسمي: امتازت السلطة الفلسطينية بابتعادها عن قضايا الشعب وهمومه فكيف بمعارك تُخاض على المستوى الفردي؟ لقد ركّزت السلطة منذ فترة طويلة على نوعية المعارك التي تريد خوضها، فالساحة التي تنظر لها هي فقط الساحة الدولية، فقد رأينا كيف استطاعت السلطة جمع عشرات الآلاف في الساحات والميادين من أجل الدولة الصورية في الأمم المتحدة، أو حتّى عندما رأينا التحركات المدعومة على الأرض من أجل مهزلة التقدم بطرد المنتخب الإسرائيلي من الفيفا، كل هذه المعارك التي تُخاض بعيداً عن هموم الشعب، والتي لا يُرجى منها خيراً تجد الدعم من السلطة، بينما أي قضية مثل قضية الشيخ خضر عدنان لا تجد أيّ اهتمام. فقد قال والد الشيخ خضر عدنان أنه حصل على رسائل تضامن من كلّ أنحاء العالم بينما لم يتّصل به أي شخص من السلطة الفلسطينية. الأمر لم يتوقف على وقوف السلطة كجهة محايدة فحسب؛ بل قال والد الأسير أنه يعزو خوف الجماهير من مناصرة نجله إلى قمع السلطة لكل الأشكال التضامنية مع المقاومة.
المستوى الشعبي: من المعروف أن المشاعر الشعبية يتغلّب عليها المزاج، وعدم حب التكرار، فإذا اعتاد الجمهور شيئاً قلّ تفاعلهم معه، فإذا أردت كسب تفاعلهم وانتباههم عليك بتصعيد الأمور وابتكار أساليب جديدة. بعيداً عن الحديث حول السياسة الاقتصادية وسياسة صنع الفلسطيني الجديد التي أبعدت المواطن الفلسطيني عن قضايا وطنه وربطته فقط بمصالحه الاقتصادية، نجد أن الإضراب عن الطعام يكون في أقوى صوره حينما يكون جماعيّاً عابراً للحدود التنظيمية، فهكذا يتم الحصول على الزخم الكبير واللازم لاجتذاب الانتباه، أما في المعارك الفردية يكون الاهتمام أقلّ، وفي حالة الإضراب الثاني يدخل عامل التكرار على المعادلة ليزيد من انخفاض منسوب الاهتمام والتفاعل. وهذا ما دفع الشيخ خضر إلى زيادة حدّة إضرابه، فبينما يتم عادة تناول المكملات الغذائية والبروتينات، نجد أن الشيخ رفض في آخر أيام إضرابه حتّى تناول الملح، واكتفى فقط بالماء، وهذا ما شكّل تهديداً جدّياً باحتمال استشهاده جعل التعاطف يبدأ بالازدياد وصولاً إلى تضامن عائلته الشخصية معه واعلانها الإضراب المفتوح على أبواب المستشفى.
في الأرقام القياسية العالمية، كلّ ما يقوم شخص بتحطيم رقم شخصٍ آخر، على أية محاولة جديدة أن تقوم بصنع شيء جديد وتحطيم العمل السابق حتّى تحصل على الاهتمام، والشوط الذي قطعه الشيخ خضر عدنان في إضراب الطعام لا يمكن أن يصل إلى أبعد من هذا سوى الشهادة، وهو القرار الذاتي الذي أخذه الشيخ بعيداً عن أية حسابات خارجية، إما الحرية أو الموت. وبهذا تخرج وسيلة الإضراب عن الطعام كطريقة لاجتذاب الاهتمام العام وكونها وسيلة فاعلة إلى قرار شخصي يحتاج أخذه إلى وثبة قوية قد تصل إلى الشهادة حتماً، بالإضافة إلى أن كل هذا-التكرار والمبالغة- أعطى الاحتلال مساحة أكبر لمراوغة هذا الأسلوب، حتّى أصبح التصويت على قانون إطعام المضربين غصباً مجرّد وقت.
كما أبدع الشيخ خضر بابتداع أسلوب الأمعاء الخاوية في ظل طروف موضوعية كان يعيشها، علينا البحث مجدّداً عن الوسائل الناجعة التي تساعد أسرانا داخل السجون. وحتى لو كانت هذه ختام معركة الأمعاء بشكلها الحالي، فلن يكون شعارها سوى: وحده، أنجز وعده، ونصر شعبه، وهزم الأمعاء وحده.