تجول الأسيران المحرران خضر عدنان وثائر حلاحلة غاضبين يوم أمس في شوارع رام الله داعيين أصحاب المحلات التجارية لإغلاقها انتصاراً للأسرى واحتراماً لروح الشهيد الأسير ميسر ابو حمدية الذي استشهد بعد معاناة مع المرض في سجون الاحتلال وتقصير على كل المستويات في الانتصار لقضيته.
ظهر تسجيل لتلك الحادثة، لم يكن فيه أي شيء ملفت، فقد اعتدنا على الأسيرين المحررين خضر وثائر المشاركة في كل فعاليات الانتصار للأسرى، واحياناً كثيرة كانا هما أصحاب المبادرة، لكن الملفت هذه المرة كان في ظهور عنصرين من الشرطة اعتدنا ان نرى احدهما في القمع والتصدي للمظاهرات ومنع محاولات اغلاق الشوارع خلال كل الفعاليات التي شهدتها رام الله تزامناً مع إضراب الاسرى الكبير وما بعده، لكن هذه المرة ذلك العنصر ظهر بشكل لطيف نوعاً ما من غير عصاه التي كانت ترافقه دائماً، ظهر يدعو الشيخ خضر للتوقف عن دعوته لإغلاق المحلات قائلاً: "مش بهاد الاسلوب يا شيخ".
عن أي اسلوب يتحدث؟ بالتأكيد ليس أي أسلوب على الإطلاق من الأساليب التي تربينا ونشأنا عليها من الإضرابات وإغلاق الشوارع وإحراق الاطارات، هو يتحدث عن اساليب أوروبية جديدة استوردتها السلطة الفلسطينية وتحاول فرضها علينا تماشياً مع محاولات اظهار مدن الضفة الغربية كمدن "حضارية". فمثلا لن يجد الشيخ خضر إلا الترحاب والشكر والتضامن لو اعتصم على دوار المنارة وأشعل الشموع وحمل صورة الشهيد مثله مثل المتضامنين الأجانب ممن يقفون أمام السفارات الاسرائيلية أو القنصليات الفلسطينية لإظهار تعاطفهم مع القضية الفلسطينية.
لن تكون لديهم مشكلة لو قاد الشيخ خضر مظاهرة غاضبة باتجاه حاجز عوفر الذي يشهد دائما اشتباكات محدودة، ولكن ستظهر وستلوح عصا ذلك الشرطي الذي ظهر لطيفاً لو غيّر الشيخ خضر مسار المظاهرة باتجاه حاجز عطارة، الذي يعلو شارعاً رئيسياً يوصل ما بين المستوطنات، ويشهد حركة نشطة للمستوطنين، وبالتالي لن تكون الاشتباكات محدودة كاشتباكات عوفر.
استعرض هذه المشاهد في محاولة لفهم "حضارية" التظاهر التي يدعون لها، ويبذل الجهاز الإعلامي في وزارة الداخلية جهداّ ليس هيناً في ادخال ثقافتها على المجتمع. "حضارية" التظاهر المستمدة من "حضارية" مدينة رام الله، مدينة رام الله النموذج لإحدى مدن "الدولة الفلسطينية الحضارية"، النموذج الذي لا يفترض بك استحضار الإحتلال فيه بما يتجاوز المسموح المحدد، ولا يحق لك الحديث فيه عن المقاومة من غير التأكيد على سلميتها.
وكنتيجة طبيعية للمظاهرات "الحضارية"، قلّت الاشتباكات المباشرة مع الإحتلال التي كانت تجدد الغضب والتمرد داخل نفس الفلسطيني، وبالتالي أدى ذلك الى برود وسكون في مشاعره اتجاه المستوطن وحتى جندي الاحتلال على الحاجز، وفي بعض الحالات أدى ذلك الى التماهي مع كل تفاصيل الاحتلال، يظهر ذاك التماهي جلياً ً فور تنقلك بين المدن الفلسطينية، ومرورك بالحواجز والقرى والبلدات القريبة من المستوطنات، فذاك يبتسم على الحاجز للجندي، وذاك يحاول جاهداً إصلاح سيارة مستوطن يقف بجانبها آمناً، وترى مستوطناً يفاصل بائع الخضار ويطالبه بخصمٍ لأنه زبونه، وفد تصادف مستوطناً يتجول في متجر ثم تقف بجانبه لتدفع الحساب، وفي رام الله تسمع عن اجتماعٍ ترعاه جهات رسمية يجمع رجال أعمال اسرائيليين بنظرائهم من الفلسطينيين لتقوية العلاقات.
وهنا نعود الى استحضار معالم "الفلسطيني الجديد" الذي تعهد الجنرال الامريكي كيث دايتون بصناعته، وأعاد هيكلية الاجهزة الامنية لتتولى عملية ضبطه وترويضه تحقيقاً لما تعهد، ونتساءل عن دور كل منا في مقاومة ذلك الشكل الجديد، وكيفية التعامل مع القوى التي ترعى صناعته، أيكون الحل بعدم التعاطي معها وتعريتها؟ ام نكتفي بالعودة بالذاكرة لتفاصيل جرائم واعتداءات الاحتلال وتعديد اسماء الشهداء؟ ام نتقبل ذاك النموذج ونسهل مهمة ترويضنا، ونستسلم لكوننا "الفلسطينيين الجدد"، الفلسطينيين الذين لا يغضبون ولا يعبرون عن غضبهم الا بشكل "حضاري".