سليم الإفرنجي (45 عاما) أب لثمانية أطفال أكبرهم يدرس في المرحلة الثانوية، انتظر سنوات طويلة كي يحصل على راتبه كاملا ليشعر بأنه موظف حقيقي أسوة بالموظفين التابعين لحكومة رام الله الذين يقبضون رواتبهم كاملة وهم مستنكفون، ولكن لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، كما يقول لنا.
فعلى الرغم من تلقيه ضعف راتبه الحقيقي إلا أنه محمل بديون كثيرة بالكاد تستطيع (1200$) أن تسدد الجزء اليسير من هذا الدين الذي يطالبه أصحابه بضرورة تسديده، فبقي طوال الليلة الماضية يحصي أسماء الدائنين ومستحقاتهم المالية، وكيفية توزيع ما سيتسلمه عليهم ليرضي الجميع.
ففي الوقت الذي تحتاج عائلته هذا المبلغ إلا أنه مجبر على تسديده كدين عليه منذ أشهر ولن يرحمه أحد، ولن يستطع إكمال فرحة أبنائه الذين ينتظرون هذا الراتب منذ شهور ليكسو أنفسهم ملابس العيدين الذين وليا دون أن تتمم فرحتهم بملابسهم الجديدة.
طفله محمد (8سنوات) بدا عليه الحزن حين رأيناه مع والده وهو يصر عليه بالقول: "بابا مش راح تروح تشتريلي الأواعي، مش هيك بدك تاخد فلوس وين الأواعي الجدد تبعوني"، يحاول والده أن يهدئ من إصراره بالرد عليه "طيب يا حبيبي المرة الجاية، هاي لعمو بده اياها علشانه عيان وانت المرة الجاية راح اشتريلك كل اللي بدك اياه".
ويقول الإفرنجي لشبكة قدس:" النقود انتظرناها طويلا ولكن دون جدوى، حتى أنني بالكاد سوف ادخر منها بعض النقود لأشتري الحاجيات الضرورية لبيتي الفارغ، وأهمها المواد التموينية لأطفالي لحين استتباب أمر رواتبنا التي لا نعرف مصيرها حتى الآن".
انتظار طويل
ولا يختلف حال المدرسة وفاء الجدبة كثيرا عن الإفرنجي، فهي أيضا وقفت في طابور للسيدات تزاحم زميلاتها لعلها تصل إلى (التلر) قبل أوانها لتستلم راتبها، الذي عليها أن تعود به إلى البنك كي تسدد قرضا كان قد اتخذه زوجها قبل سنتين كي يستطيع إكمال بناء منزله.
وتقول الجدبة لشبكة قدس: "انتظرت هذه اللحظة طويلا لأنقذ زوجي من سجن محتم، وكأن النقود ليست لنا، فلن أستطيع أن أنزل بها إلى السوق كباقي الموظفات لأنه علي استحقاق وزوجي يتهدده السجن"، مضيفة، "خلال السنتين الماضيتين لم نستطع أن نسدد القرض الذي أخذناه لزوجي كي يكمل بناء بيتنا، فاضطر أن يأخذ سيارة بالتقسيط من أحد معارض السيارات كي يعمل سائقا عليها ولكن أقساطها المرتفعة حالت دون أن تبقى معنا طويلا فخسرناها ولم يجد عملا آخر ولم يسدد قرض البنك".
وكان البنك يخصم على كفلاء زوجها طوال سنتين بسبب قرضه، مما اضطر الكفلاء ليذهبوا إلى المحكمة التي أمرت بضرورة دفعه للأقساط أو حبسه، وبدأت الشرطة بملاحقته لتنفيذ الأمر القضائي، وتتابع الجدبة:" في كل مرة كان يقنعهم بأنه لحين نزول رواتب الحكومة سيقوم بتسديد المبلغ وكانت الشرطة اتصلت عليه أمس لتذكره بضرورة دفع المستحقات أو تنفيذ أمر المحكمة".
مستقبل مجهول
تتعدد وجوه الموظفين داخل البريد ولكن حالهم واحد، فالجميع يشتكي من عدم استفادتهم من راتبهم، ولا حتى إن كان سيكون منتظما أم لا ؟!، فلا يعلم موظفو غزة الذين اصطفوا بالآلاف أمام مقر البريد في مدينة غزة ليتلقوا مبلغا ماليا وقدره (1200$) هل هي من ضمن مستحقاتهم المالية على الحكومة، أم هي مساعدات مقدمة من الجهات المانحة رأفة بحالهم التي أصبح يرثى لها بعد أن انقطعت عنهم الرواتب بشكل كامل عقب استلام حكومة الوفاق برئاسة رامي الحمد لله، وذلك للخلاف الدائر حول شرعيتهم من عدمها.
وكانت عشرات الآلاف من موظفي غزة تجمعت أمام مقر البريد كي يُحصلوا دفعة من رواتبهم المستحقة والتي لم يصرفوها لأكثر من 5 أشهر، وكانوا يحصلون على دفعات من مستحقاتهم السابقة من حركة حماس التي كانت تتولى الحكومة بغزة.
ولم يكن ملف رواتب موظفي غزة بالهين بالمشاورات والمباحثات بين فتح وحماس، فكان من أهم الملفات التي قد تعيق إتمام المصالحة، ولكن في اتفاق الشاطئ تم التوافق بين الحركتين أن يتم تشكيل لجنة لبحث أسماء الموظفين وإعادة رواتبهم وضم عدد منهم في حكومة التوافق لحين إتمام الانتخابات التشريعية والرئاسية.
أما العسكر من موظفي غزة فبقوا على ما هم عليه فلم يتلقوا هم دفعة أسوة بغيرهم، ويعتبر عدد منهم بأنها كذبة ومهانة لهم ولمن حصلوا على الأموال فقط لأنه يتم التلاعب بقضيتهم، ويقول الشرطي محمود عباس:" هذه كذبة كبيرة، وهي لعبة سياسية بحتة، يتلاعبون بنا جميعا ويريدون إذلالنا بالنقود كي لا تنفجر الأمور في غزة"، مشيرا إلى أنه راض بما هو عليه الآن على الرغم من أنه بحاجة ماسة للحصول على مستحقاته كي يستطيع الاستمرار بحياته بشكل طبيعي ويعول أسرته المكونة من 10 أفراد بينهم والديه المسنين.
وربما أكثر ما يحزن عباس هو أن أطفاله الصغار كانوا يسألونه أمس إن كان سيأتي لهم بالألعاب بعد أن يستلم راتبه ويقول لزمن برس بحسرة:" ماذا سأقول لهم؟ وكيف سأبرر لهم ما يجري لنا هل أقول بأننا مغضوب علينا من إسرائيل وأمريكا لذلك لم أشتري لكم هدية متواضعة؟".
ولم يعد يحتمل الرد على هاتفه النقال والدائنين يسألونه إن كان سيستطيع سد جزء من دينه لهم من المال الذي سيقبضه اليوم لكنه يرد عليهم بصوت أقرب إلى اليأس:" والله ما هو احنا اللي راح نقبض هدول المدنيين احنا عساكر يعني مغضوب علينا".