شبكة قدس الإخبارية

الصور الفوتوغرافية والأسرى.. ما هو سر العلاقة؟

هيئة التحرير

الأسير حسن كراجة_شبكة قدس: صباح يوم الزيارة، بدأت كالعادة بتجهيز نفسي لزيارة أمي لي في السجن، كما بقية الأسرى الذين يوافق موعد زيارات أهلهم لهم في ذات اليوم، جميعا ننتظر رؤية الأهل وسماع الأخبار وما يجلبه الأهل لهم من دخان أو مصروف أو صور. الصور والأخبار تمثل للغالبية أهم ما تم ذكره، حيث المال والدخان سوف يتم استهلاكها، وزيارة الأهل مدتها محدودة "45 دقيقة" وتنتهي، وبسبب نسيان غالبية تلك الأخبار في ظل الحياة اليومية للأسير، الصور وحدها من كل ذلك سترافقه حتى نهاية المدة الاعتقالية، طالت أم قصرت....

في ذلك اليوم، أمي "حبيبتي" جلبت لي معها كل ما أحتاجه من حنان أولا وبقية احتياجاتي الأخرى، ومجموعة من الصور التي ما إن نقلها السجان من قاعة الزائرين إلى قاعة الأسرى نظرت إليها نظرة خاطفة لأكحل عيوني بها، إضافة للكحل الذي زينها برؤية الأم الغالية، انتهت الزيارة....عدنا للزنازين وكل منا ذهب للاستلقاء على سريره ليغمض عيونه ليحافظ قدر المستطاع على صورة الزائر/ة في عيونه، و يحفظ في ذاكرته كل ما جرى في الزيارة، الشيء الذي تحترفه الصور أكثر من العيون وحتى الذاكرة... بعد الانتهاء من هذه الحالة التي تصيب كل أسير بعد الزيارة، التي تنتهي بمجرد حدوث أي مستجد داخل السجن أو الزنزانة أو مع الأسير نفسه، بدأت بتقليب الصور التي جلبتها الأم، للتدقيق في تفاصيلها، عارفا قيمتها...فالصورة تعبر عن ألف كلمة.

إحدى الصور هي صورة أخي محمد...غاصت عيناي فيها، الصورة التقطت لأخي بالقرب من شجرة ياسمين مزروعة باب بيتنا..بحركة لا ارادية قربت الصورة لأنفي بشكل سريع في محاولة لأن أشتم رائحة الياسمين، لم أدرك حينها أن الصورة لا تحمل الأصوات والحركات والروائح وأشياء أخرى...الكثير من التصرفات الغير طبيعية في هذا المكان الغير طبيعي نقوم بها، فالسجن مكان اللا حياة واللاموت كما يصفه الأسير"أبو سارة"، هذه الحادثة الغير طبيعية دفعتني للتفكير بعمق أكثر بما حدث و للحديث عنها لرفاقي الأسرى محاولا معرفة إن كان تأثير الصورة علي كما هو عليهم.

في أحد الأيام تحدثت عن ذلك للأسير ناصر صلاح، و سألته عن علاقته بالصور- من الجدير بالذكر أن هذا الأسير محكوم مؤبد وخمس سنوات، وقد قضى منها أكثر من سبع سنوات-الأسير ناصر حدثني عن إحدى القصص المتعلقة بالصور، حيث في إحدى زيارات الاهل، جلبت له والدته مجموعة صور منها صورة بنت أخيه، في خلفية الصورة شجرة "اسكدنيا" مثمرة وكبيرة، موقع الشجرة بالنسبة لبيتهم في الصورة قاد ذاكرته لبذورثمرة الاسكدنيا التي زرعها قبل اعتقاله في ذات المكان و كان يهتم بها إلى أن بزغت و أصبحت شتلة، بعدها تم اعتقاله، سأل والدته ان كانت هي ذاتها للتأكد فأكدت له، بسبب السجن توقف تقدم الحياة بالنسبة لناصر، أما الشتلة فقد حصلت على مساحتها الطبيعية و شقت طريقها في الحياة حتى كبرت وأثمرت.

قصة ناصر مع الصورة سردتها لأمير حينما كنا نمشي في الفورة، تم اعتقال أمير في المرة الأولى حينما كان عمره سبعة عشرعاما، و حكم عليه بالسجن المؤبد قضى منها تسع سنوات، و تحرر ضمن صفقة تحرير الأسرى عام 1999م، ثم اعتقل للمرة الثانية عام 2002م في أوج انتفاضة الأقصى وحكم عليه مرة أخرى بالسجن المؤبد، بعد ابتسامة جميلة قال لي عن قصة لها علاقة بالصور داخل السجن، مع أمير صورة لابن أخيه وصلته في بداية فترة اعتقاله الثانية حيث كان عمر الطفل حينها ثمانية سنوات، الصورة ومع تكرار مرات النظر لها رسخت في رأسه، أمير كتب رسالة لابن أخيه بعد مرور عشر سنوات على اعتقاله، الغريب في ذلك أن كل ما كتبه أمير لابن أخيهمن تحيات ووصايا وكلمات لا تناسب إلا طفلا لم يتجاوز العاشرة من عمره، سبب ذلك أن الصورة الوحيدة التي يمتلكها أمير لابن أخيه وهو في ذلك العمر، لم تتغير الصورة في ذهنه لأنه لم يحصل على واحدة أحدث ولم يتمكن من زيارته بسبب القوانين العنصرية لادارة مصلحة السجون الصهيونية.

قصة أمير مع الصور وتأثيرها عليه و على تصرفاته جعلتني أكثر فضولا واهتماما، حيث لم أتوقف عن سرد قصتي مع صورة أخي و سرد قصص سمعتها عن الصور و مدى تأثيرها على الأسرى ذلك دفع أحد الأسرى إلى أن يحدثني عن صورة ينظر إليها كلما رغب بالضحك..

الأسير رائد قضى إحدى عشر عاما من أصل أربع و عشرون عاما وهي مدة الحكم الذي أصدرته بحقه المحاكم الصهيونية الغير شرعية. حصل رائد على صورة لحديقة منزله، هذه الصورة تقوده إلى سن المراهقة، ستة عشر عاما إلى الوراء، حيث كان رائد حينها طالب في الثانوية العامة، وقد رغب في تصنيع النبيذ من عصير العنب، حيث خبأ في حفرة عميقة في الحديقة قنينة بلاستيكية مليئة بحبات العنب المعصورة، في أحد الأيام الحارة و بعد مرور أسبوع على دفن القنينة، تناثر التراب وقشور العنب في كل مكان محيط بالحديقة، لا ينسى رائد العقاب الذي ناله بسبب ذلك و طريقة هربه من والده لاكتشافه أمر القنينة، هذا الحادث لا يعيده للذاكرة كما تفعل تلك الصورة.

كل هذا وغيره من القصص وأحداثها وارتباطها بالصور والذاكرة داخل السجون دفعني للانتباه لما يدور حولي بهذا الخصوص، حيث انتبهت لأسير يعيش معي في ذات الزنزانة، يضع صورة جماعية لأبنائه وبناته داخل كل كتاب يقرأه وينقلها من الكتاب الذي يختمه إلى الكتاب الذي يبدأ بمطالعته، حتى تكون رؤية الصورة أول شيء يقوم به قبل البدء بكل جولة قراءة، وأول شيء يقوم به بعد انتهائه منها، نعم لهذه الدرجة مرتبط هو بتلك الصورة، ليس لقيمتها المادية وإنما لقيمتها المعنوية والحسية والعلاقة بالأماكن والاشخاص والاشياء وعامل الزمن...أي ما تحتويه الصورة من لحظة تاريخية.

قصص مختلفة، المشترك فيها أن الصور هي محور القصة والأسرى أبطالها وقضيتهم سببها، هذه المكونات موجودة بشكل بارز في قصة الأسير إسلام البرغوثي، الذي أنجبت زوجته طفلهما "يامن" في الوقت الذي كان فيه إسلام مشبوحا على كرسي التحقيق في مركز تحقيق المسكوبية، بعد انتقال إسلام للسجن وجد صورة ابنه "يامن" قد سبقته إلى هناك، حيث خال "يامن" أيضا أسير وموجود في ذات السجن، وقد حصل على صورة ابن أخته في إحدى الزيارات، إسلام يحصل كل فترة على صورة حديثة للطفل "يامن" الذي لم يراه إلا من خلال الصور، ملامح "يامن" تتغير من صورة إلى أخرى ومن وقت لآخر، "يامن "خارج السجن يشق لنفسه طريقا في الحياة منتظرا حرية والده، وإسلام يبقى منتظرا صورة جديدة لابنه كل زيارة أهل دون أن يتوقف عن انتظار الحرية.

أما الأسير بلال عودة، المحكوم ثمانية عشر عاما والمعتقل منذ عام 2001م، فقد التقيته منذ خمسة أيام حصلت خلالها على فرصة للحديث عن هذا الموضوع، فقال إن الصور تشعره بتعميق الجمود الذي يعيشه، و يقول أنه يحب صور الأمكنة التي عاش فيها لحظات من حياته ليسقط ذاته داخلها، طبعا بلال الرائع لم يكن آخر من تبادلت الحديث معه عن ذلك.

الدكتور نادر وصله خبر عن الموضوع و سألني: "أين وصلت؟"، فقلت له: "عند قصتك مع الصور"، فبدأ يبحث في ذاكرته عن واحدة، فحدثني عن صور أطفاله محمد وحسين ومريم، المعلقة على جدار الزنزانة على المساحة الملاصقة لسريره، قال لي أنه مرة عاد إلى الزنزانة بعد يوم طويل من العمل في مقصف قسم السجن، نظر إلى الصور، لم يجد مريم، فجن جنونه، لعل أحدا أخذها، فصرخ في الزنزانة:"أين مريم؟"، فهرع الجميع:" ما الخطب؟"، رد نادر عليهم معاتبا:" لقد استودعت عندكم مريم والأولاد، والآن مريم ليست هنا"،فبدأ الجميع بالبحث عنها وتذكر كل من دخل الزنزانة ذلك اليوم، وخلال البحث وقلب الفراش، وجدوا مريم تحت الفرشة، فقال لهم:"يا عيب الشوم عليكم، مريومة تحت الفرشة ولا أحد مكترث"...فأخذوا الصورة واحدا واحد و اعتذروا منها، و بدأوا يقطعون ملصق الشامبو لإعادة لصق الصورة حيث كانت...طبعا مع الشرح وتمثيل الحدث كيف كان والتغيير والملامح ونبرات الصوت أنا ما قدرت أوقف ضحك، هذه إحدى تفاعلات الأسرى مع الصور، التي تحتضن الذكريات وطيف الأحبة.

عرضت ما دونته على جمعة التايه، أسير قضى اثنا عشرة عاما في السجن من حكم ثمانية عشر عاما، فقص عليّ قصة عن صورة لم يتم التقاطها بعد...حيث أن أم جمعة لم تحصل على تصريح زيارة له طوال السبع سنوات الأولى من اعتقاله، وفي يوم من الأيام بعد هذه المدة حصلت على تصريح لمدة ثلاث شهور، زارته في المرة الأولى، وخلال زيارتها الثانية له أخبرها أن من حقه أن يحصل على تصريح تصوير مع الأم بما أن عمرها تجاوز ال 50 عاما، وأن الزيارة القادمة سيكون قد حصل على ذلك التصريح من إدارة السجن.خلال المدة الواقعة بين الزيارتين "أسبوعين"، كان قد حصل على التصريح و كان قد تصور آلاف الاحتمالات لهذه الصورة: طريقة احتضان الأم، الابتسامات، طريقة النظر للأم، طريقة الوقوف أو الجلوس....الخ الزيارة كانت يوم الأربعاء، ولكن للأسف توفيت أم جمعة قبل موعد الزيارة بيومين، لم تحدث الزيارة ولم يتم التقاط الصورة ولن يتم ذلك...

هذه الأيام، ومع انتشار مواقع وبرامج الصور والتصوير والانتشار الغير طبيعي للكاميرات بأشكالها وأنواعها خارج أسوار السجن، فقدت الصورة الكثير من قيمتها، أما داخل السجن رغم كل هذا الحصار المفروض على الأسير الفلسطيني، ترتفع قيمة الصورة مع كل يوم يقضيه الأسير وراء قضبان السجن والسجّان.