شبكة قدس الإخبارية

هل يصنع الفايسبوك الثورات؟ إشكاليّات الفايسبوك كأداة سياسيّة (8)

طوني صغبيني

* * *

ظهور الفايسبوك وغيره من أدوات الإعلامي الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة سبّب الكثير من الحماس في قلوب الناشطين السياسيين والمدنيين والبيئيين؛ الموقع الأزرق أعطى للأفراد ما لم تعطيهم إياه أية أداة إعلامية أخرى في التاريخ: صوت مرتفع وفرصة متساوية مع جميع السكّان الكوكب لإيصال هذا الصوت. بروفايل واحد على الفايسبوك يمكن له في يوم واحد أن يوصل صوته إلى عدد من الناس يفوق عدد اللذين قرأوا البيان الشيوعي لكارل ماركس خلال العقدين الأوّلين لنشره في القرن التاسع عشر. الإعلام الاجتماعي ومنه الفايسبوك حوّلنا من مستهلكين للإعلام إلى صنّاع له، من جهة متلقيّة إلى جهة فاعلة. صناعة الرأي العام في عصر الإعلام الاجتماعي لم تعد مجرّد ملعب خلفي لعمالقة السياسة والمال. بعض المفكّرين الغربيين يتعاملون مع الإعلام الاجتماعي كأنه رسول منتظر للديمقراطية، وبعض الناشطين ينظرون إليه كأنه هبة من الآلهة لنصرة قضاياهم. لكن، رغم ذلك كلّه، هنالك إشكاليات حقيقية تقف بصمت خلف كلّ هذا الحماس: فهل الأفراد باتوا حقّاً صنّاع الرأي اليوم أم هو “المجموع” الذي قد لا يقلّ سطوة واستبداداً عن الحكومات وعمالقة الإعلام التقليدي؟ هل يساعد الإعلام الاجتماعي حقاً على صناعة رأي عام أم هو عامل يؤدّي إلى شرذمته وشلّه أمام الاستحقاقات المهمّة؟ وهل الإعلام الاجتماعي هو نصير طبيعي للقضايا الإنسانية أم يمكن أن يكون عامل مؤخّر لها؟ وهل يساعد الإعلام الاجتماعي حقاً على الوصول إلى عدد أكبر من الناس أم أنّه يخلق نوعاً جديداً من الناشطين الكسولين اللذين ينتقلون من قضيّة لأخرى كأنهم يغيّرون قمصانهم؟

* * *

 

الإعلام الاجتماعي ومشكلة السلطة اللامرئية

الفايسبوك قد يكون فعلاً أعطى صوت أكبر لمن لم يكن لهم صوت في السابق، وسمح لهم بالوصول إلى عدد أكبر من الناس. لكن في رأينا المتواضع، الفايسبوك هو أيضاً أداة وضعتنا بشكل مباشر تحت هيمنة سلطة المجموع وقلّصت الرأي الفردي إلى حدود ضيّقة. يكفي أن نتابع أنماط التفاعل الالكتروني في أيّة قضية لنرى كيف تتصرّف سلطة الجموع لتهيمن على الرأي العام في هذا الموقع. عند أي حدث يراه “المجموع” مهماً، لا يستغرق الأمر ساعات معدودة لتبدأ عمليّة قصف عقولنا من قبل الأصدقاء والغرباء، بالمقالات واللينكات والصور والفيديو، على امتداد أسابيع أحياناً، وحيث أن معظم المواد تكون بنفس الاتجاه السياسي أو الفكري. أمام هذا الفيضان المعلوماتي الهائل، معظمنا لا يملكون الخيار أحياناً سوى بالتحوّل إلى مساهم في بثّ نفس المضمون، أو بالتجاهل التام للمسألة الذي يخفي معظم الأحيان اختلافاً في الرأي لا نجرؤ أن نعبّر عنه علناً. من جهة أخرى، تعامل “المجموع” مع “المتمرّدين” على الفايسبوك لا يختلف قسوة عن تعامل الإعلام التقليدي مع منشقّي الرأي، خاصة في المسائل الحسّاسة. كم من مرّة مثلاً امتنعنا عن الإدلاء بآرائنا الصريحة في مجالات الدين والسياسة والقضايا الاجتماعية على الفايسبوك خوفاً من ردّة فعل العائلة أو الأصدقاء؟ كم من مرّة هوجم أصحاب الرأي المختلف في المواقع الاجتماعية بشكل قاسي لمجرّد تعبيرهم عن رأي مختلف؟ كم من مرّة امتنعنا عن التعبير عن معارضتنا لدكتاتور عربي أو عن توجّسنا من ثورة قائمة، خوفاً من التعرّض للعزل أو “التأديب” الالكتروني؟ هذه السطوة لا تقتصر فقط على قدرتنا على التعبير عن رأينا بحرّية بل تشمل في أحيان كثيرة مشاعرنا وقدرتنا على تكوين رأي مستقلّ خاص بنا. فكيف يمكن لنا تكوين رأي مستقلّ إن كانت عقولنا وعواطفنا تقع تحت هيمنة مئات الستاتوسات واللينكات ذات الاتجاه الواحد الصادرة عن عشرات ومئات الأصدقاء يومياً؟ ديناميات ما نسميّه “سلطة المجموع” على الفضاء الالكتروني تحتاج لدراسات مطوّلة لكي نفهم الطريقة التي تؤثر بها على صناعة الرأي العام، لكن بجميع الأحوال، إن مجرّد وجود هذا النمط من السلطة اللامرئية يعني أنه من المبكر الحديث عن أن الفايسبوك حرّر الرأي العام من سطوة الواقع السياسي والاجتماعي وأعطى السلطة للأفراد. في العديد من الأحيان، نرى أن الإعلام الاجتماعي يُستخدم بفعاليّة لتعزيز أجندة الحكومات والقوى الاجتماعية المحافِظة تماماً كما يُستخدم لمصلحة القضايا التحرّرية. الجيش الالكتروني السوري مثلاً تم استخدامه بنجاح لفترة طويلة للتجسّس على المعارضين، التحرّش بهم الكترونياً، والدفاع الإعلامي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها نظام الأسد. الصفحات على الفايسبوك التي تدعو صراحة لقتل مدوّن ملحد يبلغ عدد أعضاؤها أحياناً عشرات الآلاف. الأحزاب والجمعيات الدينية المتشدّدة تستخدم الفايسبوك بفعاليّة أكبر من الليبراليين واليساريّين للوصول إلى ملايين الناس وفرض سطوتهم الفكرية والدينية على الفضاء الالكتروني. خلال فترة التوتّر السياسي التي سادت على لبنان بين عامي 2007 و2009 كان هنالك آلاف الشبّان على صفحات على الفايسبوك تشجّع على الحرب الأهلية وتمجّد قتل الجيران لبعضهم البعض.   الفايسبوك من هذه الناحية يبدو كأنه أسلوب جديد في الهندسة يفتح أبواب جديدة في مدخل المبنى بشكل يوحي أن البناء واسع، ثم يدخل المرء ليكتشف أن المكان في الداخل ضيّق ومزدحم. وحين يرفع المرء صوته اعتقاداً منه أن ما بين يديه هو وسيلة تعطيه صوت، سيجد أن صوته غير مسموع في زحمة آلاف الأصوات الأخرى التي تعتقد الأمر نفسه وتصرخ من نافذتها الالكترونية في الوقت نفسه. وحين ينظر حوله معتقداً أنه لن يجد سوى ناشطين تقدّميين ذوي حسّ إنساني مرهف، سيجد أن المكان يفيض بالطائفيين والشبّيحة والمتشدّدين الدينيين وكل أنواع القوى الرجعيّة التي اعتقدنا مرّة أنها تنتمي لكتب التاريخ. وحين ينقر زرّ ما معتقداً أنه يدفع قضيّته خطوة للأمام، سيجد “جيش الكتروني” في وجهه ينقر زرّ معاكس. أما حين يتجرّأ ويكتب رأياً يعارض فيه رأي غالبية مواطني الفايسبوك، فسيجد نفسه عرضة للتأديب والتوبيخ والتهديد، وقد يستيقظ ليرى عنوان منزله منشور على صفحات النت لكي يقوم القيّمون على السياسة أو الدين بواجبهم… هذه هي سلطة المجموع؛ يبدو أن الإعلام الاجتماعي هو في نهاية المطاف مجرّد انعكاس سيّء للمجتمع، وليس قوّة تقدمّية خارجة عن حدوده.

مشكلة تشتيت الرأي العام

ما تحدّثنا عنه آنفاً يفتح الباب أمام تساؤل طبيعي: هل مواقع الإعلام الاجتماعي كالفايسبوك تشجّع حقاً على توجيه الرأي العام إلى القضايا الإنسانيّة أم هي تساعد على شرذمته وتجعله عديم الفائدة أمام الاستحقاقات المهمّة؟ كيف يمكن للإعلام الاجتماعي أن يُعتبر أداة مهمّة للتغيير الإيجابي إن كان هنالك مثلاً، طاغية مجرم قادر على جمع مئات آلاف المواطنين في صفحة على الفايسبوك للتغطية عن جرائمه؟ صحيح أن الفايسبوك أعطى صوتاً للجميع، لكن ذلك عنى أيضاً أن كميّة المعلومات التي تتدفّق إلى أدمغة الناس في كل لحظة باتت هائلة وهذا يمنعهم في الكثير من الأحيان، لا فقط من هضم المعلومات، بل من التعرّف على القضايا المهمة وتكوين رأي واضح تجاهها. من هذه الناحية، تصبح المساواة في الصوت التي يتغنّى بها الإعلام الاجتماعي هي مشكلته الأساسيّة. فالصوت المساوي يعني أن الفايسبوك صالح لترويج رأي المثقّف والجاهل بشكل متساوٍ، يساوي بين آراء الناشط وغير الناشط، المدافع عن الطاغية والثائر عليه، الكاتب وهاوي تجميع الاقتباسات، صاحب الخبرة وابن الـ 12 عام. قد يردّ أحدهم بالقول أن إعطاء صوت للجميع بشكل متساوٍ هو أمر إيجابي وديمقراطي وتقدّمي، لكن عندما ننتبه أن الصوت يُعطَى لصفحة فايسبوك تدعو لقتل مدوّن سعودي تماماً كما يُعطى لصفحة تدعو لحريات التعبير، علينا أن نعيد النظر بهذه الخلاصة. ازدحام الأصوات قد لا يشكّل مشكلة لو كان هنالك عمليّة غربلة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافية لهذه الأصوات، لكن على الفايسبوك ومعظم أدوات الإعلام الاجتماعي، عملية الغربلة غير مرتبطة بجودة الفكرة بل بأنماط تكنولوجية وشعبيّة لا علاقة لها بأحقيّة القضايا الإنسانية. ظهور الأخبار في الفايسبوك مثلاً مُبَرمَج لإعطاء المساحة الأكبر من الظهور الأكبر Visibility ، لا للأكثر خبرة في مجاله أو للقضية الأكثر إلحاحاً إنسانياً، بل للذي يمضي الوقت الأكبر على الموقع، وللمحتوى الذي يدفع المستخدمين الآخرين لقضاء وقت أكبر على الموقع بدورهم. لذلك، إن شارك أحدهم فيديو شديد الأهمية لحادثة توثّق قمع حقوق إنسان مثلاً، ولم يتفاعل معها أحد، فهي تذهب إلى النسيان خلال ساعات معدودة أو حتى دقائق. أما إن شارك أحدهم خبر قضائه ثلاث ساعات في الحمّام بسبب وعكة صحيّة وتفاعل معه أصدقائه في لايكات وتعليقات، فهذا يعني أن الوعكة الصحيّة لهذا الصديق ستظهر في جدول الأخبار لدينا لأيّام فيما سيُنتسى الفيديو الذي يتحدّث عن حقوق الإنسان كأنه شبح عابر. تراتبيّة ظهور الأخبار في الفايسبوك تعكس إلى حدّ كبير حالتنا الثقافية الجماعيّة؛ وحالتنا الثقافية تقول أن احتمال مشاهدة فيديو مضحك يظهر قطّة تلعب مع ذيلها هو أكبر من احتمال مشاهدة فيديو يظهر تظاهرة مطلبيّة مثلاً. وحتى وإن شاهدنا الفيديو الأخير، هنالك احتمال كبير أن نشارك المحتوى من دون أن نكترث حقاً بمحتواه او حتى من دون أن نطّلع عليه كما حدث مع فيديو “كوني” مؤخراً الذي تم تقديمه ومشاركته من قبل الآلاف على أنه قضيّة إنسانيّة واتضحّ فيما بعد أنه فيديو يروّج للتدخل العسكري الأميركي في أفريقيا. من ناحية ثانية، إن فيض المعلومات في اتجاه واحد يشجّعنا في أحيان كثيرة على إغلاق عقولنا أمام أيّ احتمالات مفسّرة للحدث تنافي رأي سلطة المجموع على الفايسبوك، كما حصل أكثر من مرّة مع ناشطي مناهضة العنصرية في لبنان اللذين ثاروا عدّة مرّات على حوادث أو برامج تلفزيونية اتّضح فيما بعد أن وقائعها مختلفة. هذا النمط يتكرّر مع كل أنواع المعلومات على الفايسبوك؛ التعليقات والصور الشخصية، أنواع الطعام، القطط، الصور المضحكة، الفوتبول، النكات وغيرها، تحصل على تفاعل أكثر بكثير من أي شيء أكثر جدّية مثل القضايا السياسية والاجتماعية. وعند حصول استحقاقات ما، بعض المراهقين والمستخدمين المدمنين على الفايسبوك سيجدون أنفسهم فجأة تحوّلوا إلى مأثّرين أساسيين على الرأي العالم الالكتروني، بغضّ النظر عن معرفتهم وخبرتهم في القضايا السياسية والمدنية، مثلما حصل في أحيان كثيرة خلال “حملة إسقاط النظام الطائفي” في لبنان عام 2011. في كلّ الأحوال، الكمّ الهائل من الصفحات والقضايا والمواد التي تبثّ على المواقع الاجتماعية مثل الفايسبوك 24 ساعة على 24 تؤدّي في ما تؤدّي إليه إلى تشتيت القضايا والآراء وتسطيح كل شيء. لا يمكن لأي إنسان أن يفهم أبعاد ووقائع عشرات القضايا الجديدة والآراء المختلفة كلّ شهر ويتفاعل معها من دون أن يقع فريسة السطحيّة. لذلك من السهل أن نرى ظاهرة قيام مئات الناشطين اليساريين ومناهضي الإمبريالية حول العالم بالمشاركة في نشر فيديو “كوني” من دون أن ينتبهوا إلى أنه يدعم التدخل العسكري الأميركي في دولة لا يعرفون موقعها على الخارطة. خلال نقاش بين مدوّنين روس خلال العام الماضي، سأل أحدهم لماذا المواقع الالكترونية الروسية الرسمية لديها عدد هائل من البرامج الترفيهية مثل “برنامج النهود” الذي يعرضه التلفزيون الروسي أونلاين. وكان الجواب من أحد الناشطين بأن الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين “يريد للشباب الروسي الذي يمضي وقته أونلاين أن يقضيه متفرّجاً على النهود بدل أن يقرأ مواقع معارضة”. هذه الجملة تختصر في الواقع جزء كبير من واقع الإعلام الاجتماعي والفايسبوك تحديداً؛ معظم الوقت الذي يقضيه المتصفحون هناك يتفرّجون فيها على أمور ترفيهية تشبه “برنامج النهود” لدرجة كبيرة، الفايسبوك في نهاية المطاف هو موقع ترفيهي كبير. أما حين تدقّ ساعة الحديث عن القضايا الإنسانيّة، فما يحصل عادة هو إمّا فيضان معلوماتي يمنع معظم المستخدمين من التفكير باستقلاليّة أو تشتّت هائل في الآراء يقضي على فعاليّة أيّ قضيّة.

* * *

facebook-revolution1

الطاغية أيضاً يستخدم الفايسبوك

نقطة أخرى غالباً ما يتجاهلها متحمّسو الإعلام الاجتماعي وهي أن الطغاة وكل القوى التي تهدّد قضايانا الإنسانية تستخدم الفايسبوك بنجاح أيضاً. خلال الفترات السابقة، كان الإعلام الاجتماعي يقتصر على الناشطين والطلاب اللذين ينتمون للطبقة الوسطى ولم تكن الأنظمة والحكومات والشركات قد انتبهت بعد لأهميّة هذه الوسيلة. أمّا اليوم فالشركات والحكومات تستخدمه بنجاح أكبر من الأفراد في معظم الأحيان. وحكومات مثل حكوماتنا في العالم العربي تستخدمه لتحقيق هدفين رئيسيين: - البروباغاندا لمصلحة النظام (أو على الأقل التشويش على المعلومات المنتشرة أونلاين ونشر الإشاعات والأخبار الخاطئة). ما يزيد بدوره مشكلة تشتيت الرأي العام التي تحدّثنا عنها آنفاً. - المراقبة الأمنيّة (استعمال المواقع الاجتماعية لاكتشاف الشبكات الناشطة واعتقال الناشطين ومعرفة كافة المعلومات عنهم). وقد رأينا الحكومتان الإيرانية والسورية تستخدمان الإعلام الاجتماعي بنجاح لتحقيق هذين الهدفين وقمع الثورات التغييرية فيهما بعد إغراق الإعلام الاجتماعي والفايسبوك بآلاف المتطوّعين والمحازبين والمخبرين.

* * *

الكل ناشط لكن لا أحد يحارب

يتم تبجيل الفايسبوك في أوساط الناشطين السياسيين والاجتماعيين على أنه يسهّل عملية التعبئة والتأثير ويوسّع مجالات الدعم الشعبي لقضاياهم، وهذا يحمل الكثير من الصحّة، لكنهم نادراً ما يناقشون أو ينتبهون لتأثيره على المدى البعيد على الثقافة السياسية بشكل عام. هذا التأثير يكمن في استبدال النشاط السياسي الحقيقي الذي يحقّق نتائج على أرض الواقع بضجيج الكتروني افتراضي لا يحقّق الكثير. ويمكن تلخيص هذا التحوّل بالكلمة الإنكليزية التي وُضعت لوصف النشاط السياسي الالكتروني: Slacktivism. الكلمة بالعربية تعني الكسل الذي يتنكّر على أنه نشاط سياسي. وهذا ما يشجّع عليه الفايسبوك. اليوم لم يعد من الضروري أن نقرأ وأن نكوّن آراء حقيقية تجاه القضايا المهمّة وأن ننشط على أرض الواقع لكي نُوصف بأننا “ناشطون”، يكفي أن ننقر بضعة أزرار على الفايسبوك لكي نبدو كأن كل هاجسنا في الحياة هو إنقاذ العالم. على الفايسبوك، الجميع ناشط، لكن قلّة قليلة هي من تحارب فعلياً لقضاياها على أرض الواقع. الكاتب إيفجيني موروزوف يلّخص النشاط المزيّف على الفايسبوك بشكل ممتاز. يقول في كتابه “وهم الشبكة: الجانب المظلم من حرية الانترنت”: “العديد من مستخدمي الفايسبوك ينضمّون إلى المجموعات، لا لأنهم يدعمون قضايا محدّدة بل لأنهم يعتقدون أنه من المهم أن تتم رؤيتهم من قبل أصدقائهم الافتراضيين على أنهم يهتمّون بهكذا أمور. في الماضي، كان إقناع أنفسهم، وزملائهم، بأنهم ملتزمون فعلاً اجتماعياً وسياسياً لدرجة كافية لتحقيق تغيير حقيقي في العالم، يستوجب، في الحدّ الأدنى، النهوض عن كنباتهم. اليوم، الثوريون الالكترونيون يمكنهم البقاء على كنباتهم للأبد – أو حتى نفاذ بطارية الآي-باد – ورغم ذلك يُرون من قبل الآخرين على أنهم أبطال. في هذا العالم، لا يهم إن كانت القضيّة التي يحاربون من أجلها حقيقيّة أم لا إذ طالما أن إيجادها والإنضمام إليها أونلاين سهل، فهذا كافي. وإن كانت تبهر أصدقائهم، فهي جوهرة حقّة”. هذا يفسّر لماذا مجموعات وصفحات الفايسبوك التي يبلغ عديدها عشرات آلاف الأشخاص، كالمجموعات اللبنانية المناهضة للنظام الطائفي، لا تستطيع جمع أكثر من بضعة عشرات في اجتماع عمل، وبضعة مئات في تظاهرة. وهذا منطقي، لأن الانضمام إلى مجموعة على الفايسبوك ليس لديه تبعات حقيقية على أرض الواقع، وكلفته صفر، أما الالتزام بقضية حقيقيّة فله عواقب كثيرة وكلفة عالية. ذلك يأخذنا إلى مشكلة أخرى هي أن الشبكات الاجتماعيّة تعزّز فكرة “التظاهر” كغاية بحد ذاتها وتهمل التخطيط والتنظيم والعمل السياسي الطويل الأمد لمصلحة التعبئة الفورية. إحدى قياديّات الحركة المدنية في السبعينات في الولايات المتّحدة، أنجليا ديفيس، تصف هذه المشكلة في كتابها Abolition Democracy: Beyond Empire, Prisons, and Torture بالقول أن “الانترنت هو وسيلة مهمّة، لكنّه أيضاً ربّما يشجّعنا على الاعتقاد أنه يمكنا أن ننتج حركات فوريّة، حركات تشبه نمط الفاست فود (وجبات الأكل السريعة)”.   الإعلام الاجتماعي من هذه الناحية يوهم الحركات التغييرية بأنها فعّالة فيما يقضم الكثير من فعاليّتها كلّ يوم، ويوهمها أنها تنجز فيما يحرمها من أساليب العمل التي تؤّهلها على إنجاز شيء، والأهم من ذلك كلّه أنه يحرم الحركات التغييرية حول العالم من الناشطين الحقيقيين المصهورين بالعمل التنظيمي على أرض الواقع ويستبدلهم بمستخدمي انترنت لا يقومون عن كنبتهم إلا حين تفرغ بطّارية اللابتوب. هذا لا يعني أن الفايسبوك لا يمكن استعماله كأداة فعّالة في القضايا السياسية والاجتماعيّة، لكن يجب الانتباه إلى أنه يمكن استعماله في الاتجاهين (ونتائجه على المدى البعيد تميل للسلبيّة): يمكن استعماله للتعبئة كما للتنفيس، يمكن استعماله لتحويل الشباب إلى ناشطين ويمكن استعماله لإعطاء الشباب إنطباع بأنهم أصبحوا ناشطين فيما هم لا يقومون بأي شيء حقيقي على أرض الواقع. وإن أضفنا إلى ذلك حقيقة أن الفايسبوك يشتّت الوقت والتركيز، يجهّل معرفة الناشطين بأهميّة خصوصيّتهم وأمنهم المعلوماتي، يعزّز نقص الانتباه والنرجسيّة ومشاكل أخرى، من الصعب أن نتخيّل أنه عامل إيجابي في إنشاء جيل محارب وملتزم ويعرف كيفيّة توجيه جهوده وتنظيمها. على الأرجح أن العكس صحيح.

* * *

كلمة أخيرة

كل ما سبق لا يهدف للقول أنه يجب إجراء تغيير في الفايسبوك لجعله أكثر فعالية في القضايا الاجتماعية وأقل عرضة لهيمنة لسلطة المجموع، فهو في النهاية مجرّد موقع اجتماعي وترفيهي وهو أيضاً صورة عن المجتمع. لكن ما ذكرناه كافٍ لتنبيهنا إلى أنه من المبكر الحديث عن الفايسبوك على أنه خميرة التغيير الاجتماعي وفاتحة عصر حرّية الرأي والتعبير، فهو في العديد من الأحيان ذات تأثير عكسي؛ يمارس سطوة على رأي الفرد بدل أن يعطيه صوت، يشرذم الرأي العام بدل أن يصنعه، يعطي صوت مساوٍ للطاغية وللثائرين عليه، ويعطي المدمن الالكتروني صوت أعلى من أي شخص آخر على الموقع. الفايسبوك قد يساعد أحياناً على صناعة ثورة، لكنه أيضاً قد يجهضها قبل أن تولد.