استيقظتُ قبل حوالي شهر منزعجة على أثر كابوس فريد من نوعه. كنت أمشي في أحد شوارع القدس المحتلة صبيحة السادس من حزيران 1967. عند باب الجديد وقفتُ أنظر باتجاه مدخل شارع يافا، بداية ما يُطلق عليه اليوم "غربي القدس". فجأة ظهرت صديقة تحثني على الإسراع وتقول لي فلنذهب ونرى ماذا حل بتلك المنطقة التي احتلت عام 1948 وغبنا عنها 19 عاماً. مرت لحظات شديدة التوتر في داخلي، لم أتحرك فيها شبراً وأنا أفكر هل أرافقها أم لا، كدتُ أوافق، لكني فجأة صرخت بوجهها: كيف تريدين مني رؤية الخسارة؟! ألا تعرفين أن ذلك موجعٌ للقلب؟
لا أدري كيف تزاحم هذا الهمّ من بين كل الهموم وأتاني كابوساً في منامي. لم أفكر يومها لا بالحرب ولا بالذكريات. تساءلت على إثرها: كيف نجرؤ على تعذيب أمهاتنا وآبائنا وأجدادنا بسؤالنا المتكرر عن ذكرياتهم مع الحروب والمجازر. نحاول لملمة خيوط التاريخ من قصصهم الشخصية وذكرياتهم، ولكنا لا نسأل عن قلوبهم، هل تراها ترتجف وهي تصف لحظات الهزيمة والانكسار؟ نحن الجيل الذي لم يشهد سقوط حيفا ولا غزة ولا القدس، ولا الجنوب ولا الجولان. سمعنا عن ذلك فقط في الروايات والأفلام. كيف لو عشنا لحظة كتلك؟!
ماذا سيحصل بي لو شهدت اليوم هزيمة مطابقة لهزيمة 1967، وعشتُها حقيقة في الشوارع والمدن كما رأيت ملامحها في الكابوس؟ هل "سأبلع" وأمضي وأروي يوماً ما للأطفال كما رُوي لي؟ وهنا حضرت بغداد. بغداد التي تفتح وعيي عليها بشكل غريب. صحيحٌ أنني في بلد لا تنقصها حكايات الجيران لتعرف معنى "الحرب"، لكن بغداد مختلفة. لم أشهد سقوط القدس، لكنني وأبناء جيلي شهدنا سقوط بغداد.
أذكر جيداً ذلك اليوم الربيعيّ في أواخر التسعينات، عندما وضعت فيه إحدى المعلمات صندوقاً كرتونياً كبيراً في وسط ساحة المدرسة. كان علينا تجميع الأقلام في هذا الصندوق لنتبرع بها إلى بغداد المحاصرة. كنت أمر عليه بين الحين والآخر ونحن نلعب في الساحة لتفقد كمية الأقلام التي تجمعت. كنت كذلك أسأل نفسي: ولكن أليسوا محاصرين؟ لماذا لا نرسل لهم طعاما؟!
ربما قصة الأقلام تلك جعلت بغداد تتمثل في خيالي كبلد العلماء والمثقفين والناس الطيبة. كنت لسبب ما لا اعرفه أردد على مسامع أمي وأنا لم أتجاوز الثانية عشرة، أنني اريد أن أدرس الأدب العربي في بغداد عندما أكبر. وفي ذات مرة غيرتُ رأيي وقلت لها نعم بغداد ولكن سأفكر بموضوع آخر غير الأدب. ما الذي أعجبني في بغداد في ذلك العمر، لا أدري.
وفجأة وقعت في حب أغاني كاظم الساهر. كعادة المراهقين حينما يعجبون بشخصية عامة، جمعت صوره وأغانيه مكتوبة في دفتر زهري جميل. وكنتُ لا أملُّ من ترديد أغنيتي "تذكر"، و"كثر الحديث عن التي أهواها". وبين الحين والآخر كانت تتردد في عقلي كلمات مثل "ملجأ العامرية"، "النفط مقابل الغذاء".
قررت دول العالم الاستعماري أن يتحول هذا الحبّ الطفوليّ إلى ألم كبير. وجدتُ نفسي أجلس على زاوية الكنبة في بيتنا أشاهد تلك الصورة المشؤومة. هل ذلك يحصل فعلا؟ أم أننا "نشاهده" فقط؟ بغداد التي حلمت بها تدّك بالصواريخ. وجه واجم، ويدان متكتفتان، وقلب يداري صراعاً يبحث عن جواب: هل يمن الزمان علينا بغير ذلك يوماً ما؟
كانت بغداد أول الألمّ، وكانت بغداد أول الوعي، وأول الانتماء. كانت تلك الصورة على شاشة الجزيرة لبغداد تتألم وحدها أول صورة عربية في عقلي تتمثل فيها تجليات العجز، أصابتني مبكراً في مقتبل العمر. سقطت بغداد، وارتفعت معها عروبتي. من فتاة تتابع بعضاً من أخبار بلدها فلسطين، إلى العالم العربي انطلقت.. إلى بغداد. لأول مرة في حياتي سألت نفس ذلك السؤال التقليدي المكرر: لماذا يحصل لنا نحن العرب كلّ هذا؟ وكالباحث عن النهايات السعيدة بأي ثمن بدأت أفكر: هل سننتصر نحنُ العرب؟
يبدو لي أنني لست الوحيدة، بل صديقاتي معي، فنحن جيل أواخر الثمانينات، كانت بغداد أول عاصمة عربية نرى سقوطها على الشاشة. كنا في الصف مجموعة من البنات نقسم الليل بيننا. الأولى تصلي وتدعو في أول الليل، والثانية تصلي وتدعو في آخر الليل، وآخرى تتابع الأخبار هنا، وتلك تخبرنا بما سمعت على تلك القناة. في اليوم التالي وفي غفلة من الأساتذة كنا نحدث بعضنا البعض بحصيلة اليوم الفائت من الدعاء والأخبار والقصص. كانت حصص الكيمياء المملة فرصة لي للنوم قليلاً بعد ليل طويل مشغولٍ ببغداد. كنت أنتقل إلى آخر صف في الكراسي لأتحاشى أستاذ الكيمياء وأحظى بلحظات من الراحة. لم نفعل ذلك في صفنا مع بداية الانتفاضة الثانية، لكننا فعلناه مع بغداد.
أعمق الأشياء عندي تلك التي أعجز عن التعبير عنها، ولا تكفيني كل الكلمات لأشرحها. وكذلك وجع بغداد. بغداد التي كلما تذكرتها لا أجد ما اقوله لائقاً بحجم الوجع الذي تتركه في قلبي. حين سقطت بغداد.. استيقظ همي وارتفعت عروبتي.