منذ سبع سنوات ونحن نسمع هذا المصطلح في كلّ مكان، نشتمّه في الهواء، ونأكله كمقبّلات على الطعام. وبعد الحديث عن المصالحة أصبح المصطلح كقطعة لِبان يلوكها كلّ من كان ومن ثمّ يتلقفها شخص آخر ليلوكها ويلقي بها في فم شخصٍ آخر وتستمر السلسلة من التُرهات التي أصبحت لا معنى لها، الكل أصبح يتكلّم عن القشرة التي تلفّ المسألة ولا شخص يتجرّأ ليقول إن هنالك شيء ما ليس على ما يرام، القشرة لا تهم، المهم فعلاً هو ما تُخفي تحتها، ماذا يعني "الاعتقال السياسي"؟
إن المصطلحات واللغة تلعب دوراً قويّاً في السياسة وعلم الاجتماع، في كثير من الأحيان يخترع المستعمِر مُصطلحاً يخدم مشاريعه أفكاره، ويقوم المستعمَر باستخدامه بدون علمٍ منه، وقد يظنّ مخطئا أنّ هذا المصطلح يخدمه في قضيته ومطالبه العادلة، لكنّ الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، اكسر القشرة لترى الوجه الآخر لهذا المُصطلح ومن يخدم فعلاً.
ظُهور مُصطلح الاعتقال السياسي جاء مُجاوراً لأحداث الانقسام الفلسطيني، ليعبّر عن أولئك الذين يتم اعتقالهم بسبب حظر تنظيماتهم السياسية، عندما يكون سبب اعتقالك مزاولتك لنشاط سياسي، إذاً أنت مُعتقل سياسي.
لم يطل الاعتقال السياسي أبناء الحركة الإسلامية (المحظورة) وحدهم، بل امتد ليطال كل من يخالف سياسة السلطة، الاعتقال هنا ليس ضد حزب واحد فحسب، بل ضد "فكرة" بمجملها. أيّ فكرة تتعارض مع أفكار السلطة ونهجها، سلوكيات الأجهزة الأمنية هذه تأتي ضمن "باكيج" كاملْ، التحقيق مع الشباب الفلسطينيين بسبب آرائهم وإعجاباهم على الفيسبوك هو حلقة من مسلسل أنتجته العقلية الأمنيّة الأمريكية-الإسرائيلية، السلطة لا تريد أي شخص يقول لا، حتى لو لزمها الأمر أن تتجاوز جميع الخطوط الحُمر، كما فعلت قبل أيام أثناء تفريق مسيرة نسائيّة في طولكرم خرجت ضد اعتقال الشاب إسلامبولي رياض بدير، وقتها اعتدت الأجهزة الأمنية بالضرب على أخت اسلامبولي وعلى زوجة الأسير عبّاس السيّد نُقلت على اثرها إلى المستشفى، أو كاعتقال الشباب الذين يشاركون في نشاطات الأسرى، كما فعلت اليوم حينما اعتقلت الطالب جواد شلبي.
شباب الضفة وخصوصاً شباب حركة حماس يتساءلون حول ما يجري، ألم توقَّع المصالحة؟! إذن لماذا لا نزال نُعتقل؟!، لماذا هذه الأعمال الدنيئة من السلطة التي تقوم بعرقلة الأمان الذي يحتاجه الطالب ليكمل مشواره الأكاديمي وحياته الاجتماعية بسلام، تجد السلطة تستفز الطالب وتقهره وتكيد له، تعتقله قبل الامتحانات وأثناءها وحين تتأكد من أن الفصل فاته تطلق سراحه حينها، كأنّها تلعب معه لعبة تضييع المستقبل، وإذا اشتدت الأمور يعتقله الاحتلال بعدها ضمن لعبة "تبادل الأدوار" وقتها يبدأ " الأكشن" فعلا.
المُصالحة بكل بساطة هي إعادة الأوضاع إلى ما قبل 2006، وقبل 2006 كانت "الاعتقالات السياسة" موجودة وبقوّة، وكان شباب الحركة الإسلامية يقبعون في سجون السلطة حتى قبل ذلك الوقت، ما يقودنا للاستنتاج أنه كان على حركة حماس أن تكون صريحة مع أبنائها وأنت تخبرهم أن مسألة الاعتقالات السياسية خارج النقاش على طاولة المصالحة، ملف هذه الاعتقالات موجود على طاولة أخرى، طاولة التنسيق الأمني بين الاحتلال والأجهزة الأمنية.
إن مُصطلح "الاعتقال السياسي" يخدم الأجهزة الأمنية أكثر بكثير مما يخدم الشباب المُضطهد. إطلاق تسمية "المعتقل السياسي" الهدف منه تكوين فكرة في اللاوعي لدى الشباب، أن من يتم اعتقاله على قضيّة سياسية هو إنسان بريء ومن حقّه الحريّة ومن واجبنا أن نتضامن معه على الفيسبوك أو في الاعتصامات التي تفرّقها الأجهزة الأمنية بالضرب غالباً. أما من يتم اعتقاله على قضيّة وطنيّة أو بسبب سلاح وانتماء إلى خلايا عسكريّة فهذا يعني القبول بوضعه في الزاوية المُعتمة و يغدو الحديث عنه غير مرغوب، بالأحرى لا يتم الحديث عنهم أبداً، وهذا يجعل الأجهزة الأمنية في اطمئنان!
الكثير من الشباب تمت مقاضاتهم بسبب حملهم السلاح، وقد تراوحت الأحكام بين 5 سنوات إلى عشرين سنة! كما حدث مع القسّامي عُلاء دياب الذي ما يزال مُعتقلاً حتى اللحظة في سجن الجنيد في نابلس، علاء تمّ اعتقاله بتاريخ (4/6/2009) بعد اشتباك مع الأجهزة الأمنية التي لعبت حينها دور الاحتلال تماماً، في حين قُتل صديقاه "محمد عطية وإياد الأبتلي" قبل اعتقاله، وهم جميعاً مطاردون للاحتلال.
الأجهزة الأمنية تقول لكم: أصرخوا كما شئتم بقضية الاعتقال السياسي وسوف نساعدكم عليها! لكن إياكم وذكر من نعتقله على خلفية أمنيّة، إياكم وذكر من يُحقق معهم عند الاحتلال كما يُحقق معهم عند السلطة، ومن يتم تسليمه بكل صراحة من سجون السلطة إلى سجون الاحتلال. قبل أيام شاهدت مسئولاً على التلفاز يُدافع عن السلطة والأجهزة الأمنيّة، تفاصيل وجهه كانت تقول بكلّ صراحة " أنا نفسي مش مقتنع في اللي أنا بحكيه"، الكُل يشير هذه الأيام إلى أن اعتبار السلطة الفلسطينية خيارا للشعب الفلسطيني هو نهج وصل إلى طريقٍ مسدود، وكلّ ما تفعله السلطة مع مرور الزمن هو التحوّل إلى جهاز أمني للاحتلال.
أقل ما يمكننا فعله في هذه الحالة هو تسميّة الأمور بمسمياتها الحقيقية وإسقاط المصطلحات الفارغة والمضللة، لنسقط شعار "لا للاعتقال السياسي"، وليكن الشعار أكثر وضوحاً .. لتسقط العمالة مثلاً.