في منزلٍ صغير، تعيش عائلة تفتقد أباها الذي غيبه الاحتلال منذ سنين عدة، والموجع أكثر أن الاعتقالات المتكررة لمازن النتشة المعتقل منذ نهاية العام الماضي ٢٠١٣، لم يعرف لها سبب مباشر، فجميعها تعزى إلى الملف السري الذي به تحاكم قوات الاحتلال وتعتقل الأسرى الفلسطينيين، والمستوحى من قانون وضعي بريطاني كان سارياً حتى العام ١٩٤٥ حسب سجلات المؤسسات الحقوقية.
عائلة لا تلتقي إلّا لتفترق:
هذا أول حديثنا مع الطبيبة فاطمة الشرباتي، زوجة الأسير مازن النتشة منذ مطلع العام ٢٠٠٠، فقد كانا زملاء في جامعة القدس أبو ديس، لديهما أربعة أبناء، فتاة هي الكبرى "أفنان"، وثلاثة أولاد هم " عبد الله وحذيفة، وأيهم".
[caption id="attachment_43034" align="alignnone" width="387"]
عائلة الأسير مازن[/caption]
عن تجربة الاعتقال قالت فاطمة أن تجربة ذوي المعتقل الإداري تجعلهم يتوقعون أن يأتي الاعتقال من حيث لا يحتسبون، ويعيشون الخوف الدائم من قرب تكرار التجربة، فقبل اعتقال مازن بفترة وجيزة في العام ٢٠١٢حسب زوجته كانت قوات الاحتلال قد اعتقلت ٧ أو ٨ أشخاص من حركة "حماس" وهو ما جعل العائلة تستعد لتجربة اعتقالٍ جديدة، رغم أمنيتهم بألا يصدق حدسهم.
الاعتقال الأخير.. الأكثر إيلاماً:
اعتقل مازن ثماني مرات، ستٌ منها بعد زواجه، وإثنتان قبل الزواج. هذه المرة حسب فاطمة هي الأقسى، لأن الطريقة التي اعتقل فيها مازن كانت الأكثر همجية، فقد حبس الاحتلال الأم وأبناءها في غرفة لوحدهم ومنعهم من وداع والدهم، حتى إصطحبوا مازن إلى الخارج ورحلوا.
تضيف فاطمة :" خرج مازن من المنزل مكرهاً مع قوات الاحتلال في 26/ 8/ 2013، دون أن يمنحوه الفرصة لتوديعنا، ومنعونا من فتح باب الغرفة التي كنا فيها، حتى أنهم منعوا الصغير "حذيفة" من وداع والده من نافذة الغرفة التي كنا فيها، وصرخ به جنود الاحتلال بشكلٍ فج، كما أنها كانت المرة الأولى التي يتركون فيها كل هذا الكم من الدمار خلفهم"
الاعتقال كلّه مرّ.. والإداري مرارته أكبر:
قالت فاطمة إن الأسير الإداري يحرم بشكل عام من زيارات ذويه، إلا ما ندر، ما يجعل الأبناء يستقبلون أباهم في بداية كل إفراج بشيء من الجفاء والخجل، وتتحدث عن إبنها الأكبر حذيفة ١٠ سنوات أنه كان يشعر بالغيرة من وجود أبيه في بداية الافراج الأخير، فهي تعتمد على حذيفة في شؤون المنزل، وعند وجود أبيه شعر بأن نداً قد ظهر له، أفنان الكبيرة ١٣ عاماً، خلال الخمسة أشهر وال ١٨ يوماً التي قضاها والدهم بينهم كانت خجولة جداً، حتى أنها كانت لا تطلب "مصروفها" اليومي منه، وكذا كان أيهم أيضاً.
مضيفة : "في كل مرة، ما إن يبدأ الأطفال بالإعتياد على وجوده بيننا، حتى يعتقل مجدداً، أيهم الصغير الذي لم يعش بحضنه كفاية إستقبله بفرحة، كان منتعشاً بشدة، ويرافقه إلى كل الأماكن التي يذهب إليها."
وقالت: " من المعروف عن "إداريات" زوجي أنه لا يحصل على تمديد بالإداري لأربعة أشهر أو شهرين، جميع تمديداته كانت ٦ أشهر يليها ٦ أخرى، في الفترة التي أفرج عنه فيها كانت أقل من أقصر اعتقالاته، "لم يتم مدة تمديد إداري واحد بيننا" قضى مازن بالضبط خمسة أشهر ١٨ يوماً، بين العائلة، لكن هذه المرة كانت أطول من سابقتها ففي الاعتقال السادس الذي كان في 28/9/2005، قضى 4 سنوات بالاعتقال الإداري، وكان حينها أقدم معتقل بالاعتقال الإداري، وأفرج عنه في 8/6/2009، ليعاد اعتقاله للمرة السابعة بعد ٣ أشهر ونصف من الإفراج عنه في 7/10/2009.
الاعتقال الإداري .. موت سريري:
وصفت الطبيبة فاطمة الإعتقال الإداري بالموت السريري، وقالت إن الموت السريري يبدو الشخص فيه ميتاً، وكأنه نائم، لكن موعد الاستيقاظ غير معروف، وهو ما يعني، أن لا نهاية بادية له.. معاناة مستمرة بدون نهاية.
أنجبت فاطمة ثلاثة من أبناءها وزوجها بالأسر، أيهم، وعبد الله، وحذيفة، أتوا إلى العالم وأبوهم بعيد جدا، كان كلاهما طالبين في الجامعة أثناء سني الزواج الأولى، أنهت تعليمها الجامعي، وهو في الأسر، كانت تنتظر أن يشاركها فرحتها، فقد كان من المتوقع أن يتخرج في نفس حفلتها، واعتقل قبلها بأيام، تضيف بألم " تعب مازن معي كثيراً في الدراسة، كنت أتمنى لو كان بجواري حينها."
أنهت التخصص الذي يتطلب غياباً مستمراً عن المنزل، وهي بعيدة عن الأبناء، وهو بالأسر، وبعدها بدأ المسلسل البشع، أطفالٌ يأتون إلى العالم ووالدهم غائب، ويكبرون ووالدهم غائب، توضح فاطمة: " حذيفة من عمر التسع سنوات ونصف لم يكمل بحياته مع والده إلا نحو عامٍ تقريباً، تزوجت مازن منذ ١٤ عاماً، لم أعش معه فيها سوى ٣ سنوات و٤ أشهر."
معيشتها في منزل منفصل، وعنايتها بأربعة أبناء، لا تعرف متى يمكن أن يفرج الاحتلال عن والدهم، الذي نال تجديداً لإعتقاله منذ أقل من شهر، يجعلها قلقة باستمرار، حول مستقبلها والأبناء الذين ما أن يكبروا حتى يبدأوا بالمقارنة بينهم وبين الأطفال الآخرين، ويدركوا معنى غياب والدهم عن المنزل، ويستشعروا غيابه في الأعياد والمناسبات.
وصفت إبنته الكبرى أفنان هذا الأمر بقولها : " أمنيتي الخاصة أن أشعر أني فتاة عادية، تعيش مع والدها، ومعتادة على وجوده جوارها، ليست متميزة لكنها عادية، لا تعيش التوجس الدائم بأن والدها سيعتقل مجدداً، وهذا ما أناشد العالم لأجله، أنهو الاعتقال الإداري، واضح أن المعركة بدأت لكن ليس واضحاً متى ستنتهي، لهذا هم بحاجتنا لجوارهم".
أول لقاء لأيهم بوالده: رضيع بلفة بيضاء ووالد خلف الزجاج:
أيهم (٥ أعوام) إلتقى بوالده أول مرة عندما كان عمره ٢٥ يوماً، رغم خروجها الحديث من الولادة، وعمره الصغير، وأصرت والدته أن يؤذن والده في أذنه، وأرادت ألا تفوت فرصة الزيارة، فالزيارات شحيحة.
تروي فاطمة أسلوب التفتيش الذي تعرضت له هي و أيهم فقد فتشوهما وكأنها تحمل مادة خطرة، واستمرت المجندة بقولها: "حرام عليكي أن تحضريه إلى هنا" وفاطمة تجيبها " حرام عليكم أن تحرمونا من والده". مضيفه أن رتلاً من المجندات وجنود الاحتلال وقفوا مندهشين يشاهدون الطفل ذا الـ٢٥ يوماً، وهو يزور والده، قد تكون حادثة نادرة في تاريخ السجون أن يزور طفل بهذا العمر سجون الاحتلال، حتى الأسرى أصابتهم الدهشة ".
عرض الإبعاد:
في الإعتقال قبل الأخير عرض الاحتلال على مازن بشكلٍ مباشر أن يخرج مقابل الإبعاد، تواصل مع العائلة، ورفضت العائلة ذلك، وهو كان رفضه من قبل.
عن سلسلة الاعتقالات قالت د. فاطمة إنها بدأت في العام 1998م حيث أمضى مازن عاماً كاملاً في الاعتقال الإداري، وفي تاريخ 29/3/2004 قضى 9 أشهر إدارية، كانت خلالها د. فاطمة تستعد للتخرج من الجامعة بدرجة البكالوريوس، وهو بدرجة الماجستير، والتي لم ينهيها حتى الآن بسبب اعتقالاته المتكررة.
في 2005 أعتقل لمدة 4 سنوات إدارية، وأعتقل بعدها في 7/10/ 2009، لحوالي 4 سنوات جديدة، في 2013 أفرجوا عنه، وأعيد اعتقاله بعدها بخمسة أشهر و18 يوماً.
النصر القريب:
رغم إدراكها وأبناءها لصعوبة ما يعيشونه، ورغم ١٤ عاماً من المعاناة بسبب الاعتقالات الإدارية المتكرره، إلا أن د.فاطمة تشعر بأن هذه الفترة من أصعب الأوقات التي عاشتها مع أبناءها، ورغم أنها تقف مع هذه الخطوة التي تتأمل بأن تكون فيها نهاية مسلسل الاعتقالات الإدارية طويل الأمد الذي تعيشة وأبناءها وزوجها، إلا أنها لا تنكر صعوبتها.
مضيفة : "الإضراب صعب، خاصة أن هناك عدد جيد منهم يعاني من الأمراض، زوجي كان قد خسر من وزنه قبل دخوله الاضراب، وأنا كطبيبة إن كنت سأحلل ما يحدث في الجسم فقد خسر كل جسدٍ منهم نحو ٤-٥ كيلو جرام في أول أسبوع، و٣ تقريباُ في الأسبوع الثاني، واذا استمر وا فيه، فهذا أمر مقلق أكثر، ويشكل خطراً حقيقياً على حياتهم".
مازن يعاني من إلتهاب مزمن في جدار الأمعاء، يتناول علاجاً مستمراً له، ويتجدد ألمه كل حين، المحامي طمئن العائلة في آخر اتصال أن وضعه الصحي جيد، وأنه لم يتعرض لأي نوبة من نوبات المرض حتى اليوم الـ 16 من الإضراب عن الطعام، في ٢٣ مايو كانت آخر زيارة تحدثت عنها د. فاطمة نقلاً عن محاميه، قالت بأنه مشى خطوتين، ولم يستطع أن يكمل فجلس، بدا مرهقاً، ومتعباً، وهناك فقدان واضح في الوزن، لكن الإبتسامة تملؤ وجهه".