من أي بقعة مرتفعة في الضفة تظهر في الأفق الغربي القريب "فلسطين"؛ فلسطين المحتلة سنة 1948، "شَفَتنا العليا" كما يسميها الكثيرون، قريبة يصلها مشيا على القدمين كل متجه غربا ودون خريطة، يكفي أن ينحدر المرء إليها من جبال الضفة كنزهة عائلية في يوم عطلة، وسيصلها كثيرون خلال دقائق معدودة، ليست على مرمى حجر وحسب، بل مرمى حصاة.
وبالنسبة للاحتلال وجداره وعسكره، فيمكن أن تركب سيارة إلى جانب جميلة من سكان الشفة العليا فتمرّ بك من أشد الحواجز تحصينا، فترمي بعدها للجنود الكسالى الغفّل بإصبعك الوسطى، وإن كنت ذا بنية جسدية جيدة فيمكنك القفز عن الجدار كما يفعل آلاف العمال كل صباح، ويمكن أن تدفع القليل من المال لـ"محققي الأحلام" فيحملوك إلى الشفة العليا بسيارة هادئة، ولا تنزعج حين تعلم أن جزءا من المال يتقاضاه "إسرائيلي" -جندي في الغالب- بل ابتسم طويلا أمام حدود يبيعها حراسها بخمسين شيكلا، وتأكد أنك سترى من الوطن بقاعا ما كانت لك رؤيتها بأية طريقة أخرى.
وإن استيقظت لك كلاب الحواجز وألقوا عليك القبض، فستُنقل إلى الشفة السفلى مقتنعا أن الشفة العليا تستحق محاولات عديدة، وإن اعتقلوك لعدة أيام فاعلم أن السجون كلها في الشفة العليا وأنك حققت انتصارك الصغير، وإن تطاول الجدار وأُحكِم الطوق، فتذكر أن الوطن أقرب من مدى صاروخ محلي الصنع، والجدار أخفض بكثير من ارتفاع أبسط قذيفة هاون.
"بيسان" قريبة جدا، ويمكن أن تكون اسم ابنتك، سمِّ حبيبتك من باب الدلال "حيفا" وستصحو كل يوم في بيت من بيوتها، وحين تحظى بعناق فقل: "نزلت اليوم في وادي الصليب"، وإن حظيت بقبلة فاعلم أن "الكرمل" يوافيك بأفضل أنخابه.
حين تدعو أصدقاءك إلى ليلة أنس سمِّها "ليلة عكا"، وستغدو لك ذكريات في ليل عليل؛ "ليل عكا"، سمِّ المقهى الشعبي "عسقلان"، وحين تخبر الجميع بقصصك العادية ستبدأها بـ" حين كنت في عسقلان ..."، وستكون في عسقلان كل يوم، وإن سميّت المكتبة "طبريا" فستتنقل بين عسقلان وطبريا في بضع دقائق، ويمكنك أن تصل "رأس الناقورة" قادما من "النقب" قبل أن يبدأ المقطع الثاني من الأغنية المنبعثة من المذياع، هل تعلم أن المسافة بين عكا وحيفا فعلا أقصر من تكرار أم كلثوم "ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني"؟!
لا تقبل الأسماء الناجزة، سمِّ كل الشوارع "شارع القدس" ولن تمضي منها إلا إليها، وإن أحببت سمِّ كل الشوارع المتجهة شمال "بيروت"، وكل الشوارع المتجهة إلى الشمال الشرقي "دمشق"، وكل الشوارع المتجهة شرقا "بغداد"، وتلك المتجهة جنوبا "عدن" أو "الحجاز"، أما المتجهة غربا فسميها "القاهرة"، وإن رغبت "الجزائر وتونس".
اكتشف كل يوم دربا أو زهرة أو جدولا في شفتنا العليا ولا تصدق أن برابرة العصر يعرفونها، فستون سنة هي جزء من جزء من طرفة عين الزمن، لا أكثر بل أقل.
أخيرا ... سمِّ كل مقر أمني في الضفة .. "صفد" .. من باب النكاية والحرقة.
ــــــــــــــــــــــــــ
في ذكرى شاب مطارد للاحتلال اشتمّ ذات مساء رائحة السمك المشوي في يافا، وأخبر أصدقاءه أنه سيتغدى سمكا مشويا في يافا غدا، ولم يستمع لكل تحذيراتهم وتهكمهم، وحين عاد في اليوم التالي نظر في أعينهم وأشار بإصبعه إلى رأسه وقال: "الاحتلال هون موجود بس".