شبكة قدس الإخبارية

تكريس العيش كمواجهة

عبّاد يحيى

قبل أيام، اعترض مستوطن إسرائيلي طريق مركبات لأجهزة الأمن الفلسطينية، كانت تعبر شارعاً رئيسياً بين القدس والخليل. احتجز رتل المركبات، ومنعها من التقدم، تحت تهديد السلاح، فظلت على حالها في انتظار تدخّل الجيش الإسرائيلي الذي تفاهم مع المستوطن، ثم سمح للمركبات بمواصلة سيرها، وفق الترتيبات الأمنية الاعتيادية، والتي تقتضي الحصول على إذن من الاحتلال عند كل تحرك، والتنسيق معه عند المرور من مدينة إلى أخرى في الضفة الغربية.

حدثٌ عادي في معادلة السيادة التي لا تتهاون فيها "إسرائيل" أبداً، بل تتساهل في أي شيء، إلا في فعلٍ أو سلوكٍ قد يُفسَّر انتقاصاً، ولو طفيفاً من سيادتها على كل شيء في فلسطين. ويسري هذا الحال تحديداً على كل ما له صلة بالسلطة الفلسطينية، وعملياً، فإن كل ما تبنيه السلطة من أمجادٍ سيادية في خطابها الإعلامي لا يعني أنها قادرة على تحريك عنصر أمن، من موقع إلى آخر من دون موافقة إسرائيلية.

غير العادي في الواقعة كان حضور المستوطن الفجّ في المشهد، وتحديداً حضوره الطاغي، وهو يجبر مركبات أمن السلطة على الوقوف عند جانب الشارع، في انتظار أن يتدخل جيش الاحتلال لتخليصهم من الاحتجاز. وبعد ذلك، يتقدم المستوطن نفسه بشكوى ضد قيادة المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، لسماحها لمركبات السلطة بالتنقل، عبر ذاك الشارع الرئيس.

يدرك فلسطينيو الضفة الغربية أن كل مستوطنةٍ إسرائيلية جزء من مشروع الاحتلال ككل، وأن المستوطنين لا يعيشون في المستوطنات كأي سكان يعيشون في بقعة ما، بل يمثل مجرد وجودهم في الضفة، وتحديداً في المستوطنات المتقدمة داخل التجمعات الحضرية الفلسطينية، عمليةً مستمرةً من السيطرة على الأرض، ومواجهةً مستمرةً مع الفلسطينيين، أشبه ما تكون بحربٍ مفتوحةٍ منذ قيام كل مستوطنة حتى الآن. وفعلياً، فإن فكرة الاستيطان الصهيوني في الضفة، في جوهرها، تحويل مجرد الوجود المادي للإسرائيليين في تلك المستوطنات إلى جزء أصيل من مشروع إسرائيل الاستعماري المستمر.

هذه الفكرة هي خلاصة "إبداع" العقلية الصهيونية في مجال الاستيطان، وتعبير وفيّ عن قناعة ديفيد بن غوريون حيال الحدود والتخوم مع المحيط المعادي، فقد أرسى المذكور، في تخطيطه الشامل لقيام إسرائيل، قاعدةً مفادها: إن أفضل طريقةٍ لحماية التخوم هي السكن فيها، وعيش حياةٍ عاديةٍ في مناطق المواجهة المتقدمة. وضمن هذا التصور، أصبح مجرد عيش المستوطنين في مستوطنات الضفة جزءاً من المواجهة الصهيونية المفتوحة مع الفلسطينيين الباقين في أَرضهم، ومن البديهي أن مقومات المعيشة ومستواها لا تغدو أموراً جوهرية، إن كان مجرد الوجود جوهر فكرة الاستيطان. لذلك، يستغني مستوطنون كثيرون عن كل مغريات دوامة الاستهلاك المدينية في إسرائيل، ويعيشون في ظروف متقشفة - حياة زراعية في الغالب -ضمن المستوطنات.

على الجهة المقابلة، وعلى الرغم من أصالة الوجود المادي للفلسطيني وبديهيته، فشلت السلطة الفلسطينية في تحقيق الحد الأدنى من مشروعها المعلن، وهو تعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم، بل زعزع التوجه المتسارع نحو ربط الفلسطينيين وشؤونهم المعيشيّة بالسلطة من إمكانات صمودهم، وما الأزمات المالية التي تواجهها السلطة، وتحديداً في قضية توفير الرواتب لموظفيها، إلا شاهد من بين عشرات الشواهد الساطعة على تحول السلطة إلى عبء على الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية.

وضمن خطابية السلطة المتضخمة، تحولت شعارات "التشبث بالحياة واستحقاقها" إلى غنائيةٍ مكرورة، بدل أن تصبح مشروع الحد الأدنى للسلطة الذي يكرس الوجود الفلسطيني على الأرض، كجزءٍ من مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني، وبدل أَن يعزز الوجود الفلسطيني على الأرض بأي ثمن، وضمن أي شروط، تغدو مشاريع البناء والإسكان مثلاً -الاستيطان الفلسطيني كما يسميه بعضهم - امتيازاً استهلاكياً لطبقةٍ بعينها. وساهم مسار السلطة، منذ إنشائها، في تحويل الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية من ثقلٍ ضاغطٍ على الاحتلال إلى ثقلٍ ضاغطٍ على الفلسطينيين أنفسهم.

ضمن هذا السياق، وفي ظل غياب المشروع الوطني الجامع، أسقطت القيمة العملية لمجرد الوجود المادي للفلسطينيين في كل مكان من أرضهم، وغاب إدراك قيمة العيش، وفاعليته، في سياق المواجهة المفتوحة مع الاستعمار الصهيوني. واعتاد الفلسطينيون مشهد قوات الاحتلال تعبر فضائهم وتمزقه كل ساعة، في حين لا يتردد مستوطنٌ في احتجاز وحداتٍ أمنيةٍ فلسطينيةٍ، لقناعته أن عبورهم تهديد لفهمه المواجهة المستمرة التي يخوضها المستوطنون ضد الفلسطينيين.

*المقال نشر على موقع " العربي الجديد"