على رسلك يا محمد.. أفزعت قلوبنا يوم رحلت، وأعدت نفض التراب عنها وأنت تحث السير من جديد إلى ذات البداية.. فكم من شهيدٍ ينبغي أن يتألق في عليائه كي نستعيد الإحساس؟؟ وهل سنبقى من بعدك نرثي أنفسنا ونحث التراب على ما لن يكون يوماً ماضٍ وكان!!
كعادتك لم تطل الغياب يا محمد، سنوات من العمر أعلنت تمردها ورفضت أن تمر مرَّ السحاب حتى أطلت صورتك من جديد، أنت ذات محمد بابتسامته العريضه، وبساطته المعهودة، في كل صورةٍ أحياها رفاتك العائد من مقابر الأرقام ألف حكايةٍ وحكاية، سنكتب لمن بعدك قصتك ليقرأوها في ألف نهارٍ ونهار، قصة تاريخٍ لو تكلم لما نطق بغير حروف اسمك الذي حملته تيمناً بسيد الخلق محمد، فهنيئاً لك الشهادة، وهنيئاً لوطنٍ حظي بضم جسدك الطهور.
كان لقاؤنا الأول في حافلة الركاب التي انطلقت صوب جامعة النجاح، كل ما كان حولك كان يشي بالكثير، الصمت والهدوء كانا يلفان نظرات عيونك التي لا تكف عن البحث في الوجوه وفي كل ما حولك من جزئيات.. كانا يخفيان شخصيةً عرفنا عنها وسمعنا الكثير.. لكنا تعلمنا منها فيما بعد أكثر وأكثر.
ما غبت يا محمد يوماً، وهل تغيب ذكرى كل ما فيها كان جميلاً؟؟ لم ننسك يوماً حتى نتذكرك من جديد، كنا نجد معك كل ما نريد، الصدق والوفاء والأمانة والحب والإخلاص ونعم الصديق وقت الرخاء ووقت الضيق.
لم تضق جبل النار يوماً بأهلها يا محمد لكنك كنت الحاضر في كل شبرٍ فيها في ذات الوقت وعلى الدوام، كل من كان يعرفك كان يعلم أن باستطاعته أن يراك في كليتك الهندسة أو في ساحة الجامعة، في مجلس الطلبة أو في عمادة شؤون الطلاب.. كنت متواجداً دوماً في سكنات رفيديا والمخفية وفي ميدان الشهداء وفي شارع سفيان أو عند مفرق حطين، وإن غبت عن الأنظار فأنت حتماً تتعرف على جثمان شهيدٍ في المستشفى الوطني أو تشارك في جنازته ووداعه إلى المقبرة الغربية التي بقيت وفياً لها لتعود إلى حضن ترابها بعد أكثر من عقدٍ هو عمر الغياب.
كنت رجل العزيمة يا محمد، ولم تكن تعرف المستحيل، ترى كم من الذين عايشوك شاهدوك وأنت تنفذ مغامرة إسقاط مجسم الطائرة في قلب الجامعة!!، كان المشهد تمثيلياً بكل تفاصيله، لكنه في ذات الوقت حمل الصورة الكاملة للشخصية التي لا تعرف المستحيل.
طال المسير منذ عرفناك يا محمد وتشتت الأحباب، فارتحل بعضهم إلى حيث يكون الخلود، وضجت بآخرين منهم سجون القريب وأصفاد البعيد، وضاقت الأرض بما رحبت على آخرين حتى ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، لكن أحداً في فرحه أو حزنه في غربته أو سجنه، في يومه أو أمسه ما كان ولن يكون له أن ينساك.
واليوم تعود لتطل علينا من جرح ذات القلب يا محمد، تطلق للحكاية العنان من جديد، في طلتك نعود لنتذكر كل القصص والحكايا وكل الشهداء، رأيت اليوم في ذات صورتك أجمل من عرفت، قسماتك كانت تجمع كل من أحببت ومن أحب، فيها نشأت وعامر وعلي، مؤيد وثابت، قيس وحامد، نبيل وعاصم وطاهر.. لعمري إن في نظراتك كل ما نعرف عن الشهداء، وفيها كل ما لا نعرف عن ما هم فيه من نعيم لا يعرفهم فيه من ظنوا أنهم أحياء!!!.
ها قد عدت من جديد يا محمد إلى ذات المكان، إلى جامعة النجاح ليحملك فرسانها على الاكتاف كما كنت تحمل من سبقوك صوب عرس البقاء، إلى شوارع نابلس التي ما بقي فيها شبر إلا احتفى يوماً بخطاك، إلى رفاق دربك وهم يبصرون في عودتك الماضي الجميل لحبيبٍ كان إلى القلب شديد القرب.
محمد الحنبلي، روى الناس عن رحلة حياتك الأساطير، وحدثوا عن جرأتك في استشهادك ما لا يصدقه إلا من كان يعرف من أي طينةٍ جبلت، أي قلبٍ كنت تحمل وأنت تعتلي مصعد البناية الذي صار منصةً صببت من فوقها على رؤوس قاتليك نار الموت الزؤام!! أي روحٍ تلك التي واجهت جيشاً فما لانت ورفضت الاستسلام!! أظنها ذات الابتسامة التي لا تغيب عن شفتيك كانت حاضرةً وأنت تدوس الزناد.
ها أنت تعود اليوم يا محمد إلى ذات المكان لتكتب من بعد الغياب أن الوطن سيبقى يتسع لابنائه مهما طال بهم الرحيل، وأنت والله ما كنت بالذي يغيب أو يرحل عنا في أحلك الأوقات ولا في أسعد اللحظات!! هنيئاً لنا بك يا محمد.. هنيئاً لنابلس جبل النار.. هنيئاً لوالديك ولأشقائك ولعائلتك الكريمة وهنيئاً لأصحابك وإخوانك، هنيئاً لمن قال فيك الشعر أو عزف باسمك الألحان، هنيئاً لمن أمضى ليله يجلس في ذات المكان يعد لوحتك المرسومة ولمن كتب عنك البيان.. هنيئاً لكل من اكتحلت عيناه اليوم برؤياك.. هنيئاً لمن تاقت روحه للقياك.. هنيئاً لمن عاش مرارة البعد دون أن ينساك، محمد لم تكن بالغائب عنا يوماً لنقول أنك اليوم تعود!!!.