شبكة قدس الإخبارية

المثقف أول من يستبد!

إباء أبوطه

لم يكن من السهل بعد أربع سنوات في سلك التعليم الجامعيّ أن تجد نفسك أمام ثلة من الأيديولوجيات المعلّبة تتحسسها مع قراءة كلّ كتاب، أو حوار مع أحد المثقفين، ليراودك السؤال: هل أنا إسلاميّ؟، أم ماركسيّ؟ أم ليبرالي؟ أم..، لتزداد لعناتك، أو تفتح بابًا على مصراعيه لفهمٍ جديد كلما اتضح لك زيف اللعبة.

ليس بالضرورة أن تكون الأفكار الشائعة حقائق، فقد تتحول إلى ذلك بعد أن صدّقها الناس وزيفوها، وكم يكشف لنا التاريخ جملة من الحقائق المزيّفة التي تُمرر للعقول، وتُقلم بما يخدم صناع الوعي، وهم ليسوا بالضرورة حكّامًا، بل هم مثقفون، لتكون فرص تشكيل الوعي أسهل، لا سيّما حين تُربط بأمثال وعبارات صنميّة من قبيل "من علمني حرفًا كنت له عبدًا"، لتُستتبع العبارة بعبودية الرأي والمنطق والتوجّه، وتتفكك أمامها أبسط محاولات النقد وإبداء الرأي والنصيحة. وأمام ذلك المشهد، تفرز المؤسسات التعليمية "طلبة البعد الواحد" في التفكير والتسليم لقضايا الواقع، أو حتى في اختيار الأيديولوجية التي تناسب قناعاتهم الشخصية؛ ليكون الناجون منها أقلّة.

وبين التوجيه والتنوير، تختلط الوظائف على بعض المثقفين من مختلف التوجهات، ظانًّا أنه كهنوتي أو مخلّص، ويجد في عقول طلبة العلم بوتقة يصهر فيها كل أفكاره، ويحاول أن يستنسخ نفسه من ذواتهم، بالدخول إلى بوّابة المعتقدات، لتبدأ محاولات النسف، وتتبعها الفكر، بعرض جملة من الحقائق التي لا تتخللها أيّة فواصل للتأمل، مشتتًا وعيهم، وتاركًا بابًا لم يفتح لأجل النقد البناء، وإنما في صيغة التشكيك والهدم، خاصة مثقفي التقديس الغربي، لتصل محاولاتهم إلى إعادة صياغة المفاهيم السياسية المحيطة بواقع الطلبة كالتطبيع والتمويل الأجنبي، وغيرها من ممارسات لصهر الوعي بالشكل الذي لا يلحق الضرر بالصرح التعليمي على حد تعبيرهم.

تجييش المنطق أبسط وسائل السيطرة على العقول، فهو بمثابة ساحة تُشكل فيها الآراء وتُتخذ المواقف، من خلال الانتقائية التي يستخدمها بعض المثقفين في الرد على الأسئلة، أو حتى تكليف طلبتهم بأداء مهمّة تتواءم مع صور التجييش، كاختيارهم لأداء مهمّة بحثية تتناسب نتائجها مع منطقهم، أو بالاطلاع على كتب تجد نفسك في نهاية المطاف تتلمذ، لكن على يد مستشرقين!

ما يحدث في بعض أروقة التعليم، عمليّة النسف ومن ثم البناء بالاعتماد على أرضية معرفية مزيّفة. الاستبداد الواقع على الطلبة يكمن في وقوعهم ضحيّة "وهم الاختيار"، وهم فعليًّا يتم حصرهم باختيار أيديولوجيّة معيّنة، لا يقال لهم ابحثوا عن الأيديولوجية التي تناسبكم، ابحثوا عن الله بالطريقة التي تحبونها، ابحثوا عن إيمانكم الذي لم تجب عنه الكتب حتى الآن، هم لا يريدوننا أن نبحث، هم فقط يوصلوننا إلى المكان الذي يريدونه، لنجد أنفسنا نرتدي قبعات فكريّة مهترئة لم تعد تناسب مقاس عقولنا التي بدت عليها ملامح الإدراك.

وبين ثنايا عمليات النسف الأيديولوجي، يحاول بعضهم جرف ما تبقى من "القدوات" أو الشخصيات الملهمة في المجتمع، كأن يلصق بهم تهمة التخلف والجهالة، لتكشف عملية الإحلال كل هذا الزيف، في إضفاء القدسية على بعض النماذج المستوردة في توجهاتها وأفكارها، في محاولة لتزيين الشائه منها، وشيطنة نماذج ملهمة في مجتمعنا المحلّي، لتجد نفسك في انسلاخ عن هويّتك وأصالتك وانتمائك، ولتجد نفسك مقحمًا في حالات انهزام وانكسار كان الأولى فيها أن يشار لك في أن تكون "النموذج المستقبلي" الجدير بإحلاله.

التحولات الأخيرة التي جرت في مصر، حركت زبد ما يجري في بعض الأروقة، وأسقطت الهرطقة الشعاراتية التي كان يتفوه بها بعض المثقفين عن الديمقراطية وحرية التعبير، ليميّع الحقل الأكاديمي على صفحات الفيسبوك، ويسقط بعضهم أمام "عقلانية التقنية" في التلفظ بكلمات تتنافى مع درجته العلمية؛ بالإضافة إلى عملية "تجاهل الواقع" ومجريات الأحداث في ازدواجية مشبوهة قادرة على تحويل "الجامعة" أو "المدرسة" إلى مقاطعة لا تختلف كثيرًا عن أيّة مقاطعة عسكرية، في تحويل الطلبة إلى جنود لا يفهمون غير لغة الأوامر واصطناع التأييد للأفكار والمواقف.