أداته الوحيدة آلة "الفيولا". حملها وسار بها إلى مكتب التجنيد الإجباري في طبريا. عزف ألحان الحرية، وركل كلّ ما من شأنه أن يبطّئ الدرب إليها. تحلّق أشقاؤه ورفاقه حوله. دوّى صوتهم في المكان. إنه صوت الرفض. هذه المرة ليس رفضاً عادياً يتستّر وراء جدرانٍ أربعة، بل رفضاً اجتاز كل الحواجز والحدود. زمن التعبير عن الرفض العلني لم يتجاوز الساعة. ساعةٌ من الزمن كانت كفيلةً بتحويل الأنظار إلى الشاب الدرزيّ الموسيقيّ عمر زهر الدين سعد الذي جهر برفضه لسحق أبناء شعبه. خلع البزّة العسكرية من عقله إلى غير رجعة. لا ذنب لعمر سوى أنه من طائفةٍ ظُلمت بقانونٍ شرّع التجنيد الإجباري للشباب الدروز في جيش الاحتلال عام 1956.
[caption id="attachment_34861" align="aligncenter" width="609"] عمر زهر الدين سعد: الاحتلال أيضا لن يمر[/caption]التجنيد بالإكراه
عمر الذي استوطنت مشاهد القتل والحرمان والقمع عقله، أعلن أمام الملأ رفضه لإعادة إنتاج هذه المشاهد بيديه، فكيف له أن يُطلق زخات الرصاص على صدر رفيقه في الأوركسترا الوطنية الفلسطينية، أو أن يحبس هواء الحرية عمن تحاصرهم أسوار السجن، لا لشيء. فقط لأنهم تواقوّن لكنس الاحتلال عن أرضهم، أو كيف له أن ينصّب نفسه عيناً ساهرة على جدار الفصل العنصري؟! كل التساؤلات الاستنكاريّة السابقة طرحها عمر برسالةٍ بسيطة وبحروفٍ تشدو للإنسانية أمام مكتب التجنيد بطبريا. لم يطرحها ليحصل على إجابةٍ من أحد. وجهها كي يعيد الجميع حساباته، ويصدح بصوته في كل أرجاء المعمورة.
بكنزةٍ حمراء كُتب عليها "برافر لن يمر" وبسلاح "الفيولا" استطاع عمر أن يختصر رحلة معاناة الطائفة الدرزية لعقودٍ طويلة من الزمن. حسم الشاب اليافع أمره، وقرر ألا تكون جملة "أنا مش خادم بالجيش" حبيسة نفسها، فصرخ بملء فيه: "أعارض التجنيد للجيش الإسرائيلي لأسباب ضميرية وقومية. أكره الظلم وأعارض الاحتلال. أكره مَن يعتقل الأطفال والشيوخ والنساء. لم أتخيَّل نفسي مرتدياً الملابس العسكرية ومشاركاً في قمع شعبي الفلسطيني ومحاربة إخواني العرب".
اهتمام دولي
عمر لم يكن أول من ثار على قانون التجنيد الإجباري. سبقه كثيرون إلى هذه الخطوة؛ لكنه سبق غيره بخطواتٍ وخطوات في التعبير عن الرفض على طريقته الموسيقية. حرّك عمر المياه الراكدة. تمكّن من جذب كل وسائل الإعلام نحوه التي سارعت في البحث عن جذور الأزمات العاصفة بالطائفة الدرزية الناتجة عن قبول بعض عناصرها الانخراط في صفوف الجيش.
صحيحٌ أن عمر يواجه اليوم مصيراً مجهولاً، غير أنه حظى بالتفافٍ شعبيّ وعالميّ حوله، فتلّقت عائلته عدة اتصالات من منظمة العفو الدولية وبرلمانات أوروبية وجمعيات رافضة للتجنيد. عمر ليس حرّاً الآن. دفع ثمن قراره باهظاً؛ فهو يواجه حكماً بالسجن لعشرين يوماً. رفض أن يمنع هواء الحرية عن غيره، وآثر أن يمنعه عن ذاته.
الشاب المنحدر من قرية المغار بالجليل المحتل ذي الزخم الدرزي يجهل السقف الزمني لسجنه، ومع ذلك قرر أن يخوض رحلته هذه. كان عمر قد تلقّى قبل نحو عامٍ وشهرين أمراً بالمثول في مكاتب التجنيد لإجراء الفحوصات اللازمة، وفقاً لقانون التجنيد الإجباري الملزم للطائفة الدرزية، غير أنه قرر عدم الذهاب وأصرّ على موقفه، إلى أن جاءت اللحظة الصعبة بتخييّره بين السجن أو انضمامه للمنظومة القمعيّة، حينما اجتاز السن القانوني للتجنيد (18 عاماً)، لينتهي به المطاف في السجن، على أن تعود المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتخيّره مجدداً بعد انقضاء العشرين يوماً بين ما خيرته بينهما سابقاً، وذلك حسبما أفاد به والده زهر الدين لـ"شبكة قدس".
عمر يواجه عدة أحكام
وقال والده: "سيطلق سراح ابني لأربعٍ وعشرين ساعة بعد انقضاء حكمه، وإن أكد رفضه للخدمة مرة أخرى، يعاود مواجهة الحكم ذاته". في كلّ مرة يصنع الاحتلال الشيء نفسه. إنها لعبة "عض الأصابع". يهدف الاحتلال من ورائها للضغط على ابني وعلى عائلتي لإقناعه بالعدول عن قراره، خاصةً أن لا وجود لحكمٍ معين في مثل هذه الحالات، فقد يُحبس لثلاثة أشهر أو ستة أو حتى سنة". وأكد زهر الدين فخره بابنه، مسترجعاً حكايته قبل ثلاثين عاماً، حينما شقّ طريق الرفض للخدمة بحصوله على شهادة طبيّة من أخصائي نفسي تفيد بمعاناته أمراضاً نفسية وعصبية، حتى جنى الإعفاء الفوري من الخدمة.
ويضيف زهر الدين لـ"شبكة قدس": "قبل ثلاثين عاماً، كان الجميع يعمد إلى ترهيبنا وإخافتنا قائلين "رح ينخرب بيتكو لو ما خدمتوا بالجيش"، في إشارةً إلى انسداد أفق العمل بوجه الرافضين، عدا عن حرمانهم من فرص التعليم الجامعي وحقوقهم واحتياجاتهم الأخرى".
ما نقله زهر الدين سعد يسير باتجاهٍ عكسي لما يدور في رأس الدروز اليوم. الآن كلّ شيء تغيّر، وانقلب رأساً على عقب. عوامل كثيرةٌ ساهمت في تحوّل الموقف من مؤيد ٍ للخدمة بحذر إلى معارضٍ بشدة، أهمها أن كثيراً من الدروز صحوا من غيبوبتهم، فوجدوا غالبية حقوقهم مصادرة وسط تمييز عنصري واضح الملامح.
ويقول زهر الدين مضيفاً: "اقتنعت الغالبية الدرزية أن لا شيء اسمه "إخوة في الدم" كما كان يروج الاحتلال، بدليل أن منطقتي الجليل والكرمل اللتين يقطنهما الدروز تعتبران من أفقر القرى العربية وأكثرها وباءً بالبطالة. الوضع الاقتصادي صعب للغاية، حتى التعليم الجامعي لا يسجل أعلى نسب له هنا، عدا عن افتقار القرى إلى أي منطقة صناعية، وسلخ الشباب عن امتدادهم وجذورهم وهويتهم العربيّة".
ويتابع: "الاحتلال لا يعامل الدرزي مواطناً درجة أولى، فما دمت غير يهودي، تبقى إنساناً مشكوكاً في أمره. أغلب من خدم بالجيش لم يحظَ بما كان الاحتلال يعده به".
كل الوعودات ضاعت وتناثرت، ولم يبقَ سوى الكوفيّة الفلسطينية التي يصرّ عمر على ارتدائها على الدوام، فكلّ ما من شأنه أن يعيد رسوخ الدروز في جذورهم العربية وهويتهم الفلسطينية يُفقِد الاحتلال صوابه، وهو ما يؤكده زهر الدين، قائلاً: "خطوة عمر أفقدت الاحتلال صوابه، كونها ستشرع الباب أمام حالات رفض مماثلة. عمر لن يتراجع قيد أنملة عن خطوته، خاصةً بعد ما شعر باحتضان الشعب له وشدّ على يديه".
عمر لم يكن الأول
كان أول الغيث قطرة. عمر الآن ليس وحيداً. الشابان الدرزيان سيف أبو سيف ومحمود جهاد سعد من شفا عمر لحقا به. ذهبا بقدميهما إلى السجن حينما قررا ألا يشهرا سلاح القتل بوجه أبناء شعبهما. يقبع سيف في السجن منذ أكثر من أسبوع، وفق ما أفادت والدته، مضيفةً: "ابني يكره سفك الدم والقتل. سيعرض قريباً على المحكمة، ولدينا أوراق تشير إلى أن حالته الصحية والنفسية لا تسمح له بالانخراط في الجيش".
أما سعد فتحيط به أسوار سجن صرفند منذ الاثنين الماضي، ليلتحق بأخويه ربيع ومجد اللذين جابها الخدمة الإجبارية من قبل؛ لكن تبقى قصصهما كما قصص كثيرين غيرهم مهمّشة ومفتقرةً لإبصارها النور.
كما يعمد الاحتلال إلى تغييب كلّ النماذج الرافضة للتجنيد الإجباري وضربهم في لقمة عيشهم كالشاعر سميح القاسم، وسلمان الناطور، ونايف سليم، مقابل تسليط الضوء على من يؤيدون التجنيد الذين ينعتون أصحاب الموقف المضاد بـ"الأعشاب الضارية".
حملات تشويه كبيرة ضد الدروز يقودها الاحتلال، فعلى موقع "وزارة خارجية إسرائيل" يدّعي الاحتلال أن ماضيه وماضي الدروز واحد، وحاضرهم ومستقبلهم واحدٌ كذلك بالقول "خالفت الطائفة الدرزيّة التيار المركزي للقومية العربية في سنة 1948، ومنذ ذلك الحين وهم يخدمون في جيش الدفاع الإسرائيلي وحرس الحدود (كانت خدمتهم تعتمد على التطوع الفردي بادئ الأمر، ثم أصبحت جزءاً من نظام الخدمة الإجبارية). في حرب الاستقلال سنة 1948 أصبح الدروز مشاركين نشطين إلى جانب إسرائيل".
حكاية أخرى
في بيت جن بالجليل المحتل، ثمة حكايةٌ أخرى مشابهة لحكاية عمر، فمحامي الأسرى الدرزي يامن زيدان قفز قفزةً نوعيّة في حياته. لم تكن رحلة عمله كسجان للمعتقلين الفلسطينيين في سجن "هداريم" سوى غمضة عينٍ عصفت بحياته، فحوّلته من مشاركٍ في منظومة قمعية إلى آخر متصدٍّ بقوة لهذا القمع، رغم أن تعطّشه لارتداء الزي العسكريّ رافقه لفترةٍ ليست ببسيطة. لم يشتهِ زيدان آنذاك قرار الإعفاء من الجيش، بهدف إحياء صورة والده المطبوعة في ذاكرته، فوالده كان ضابطاً كبيراً في شرطة الاحتلال، فضلاً عن أن قتل شقيقيه على يد المقاومة الفلسطينية واللبنانية عزّز إحساسه بضرورة الالتزام بالبزّة العسكرية.
التقى زيدان بأهم المطلوبين عند الاحتلال كسمير القنطار ومروان البرغوثي، حيث التصق بعالمهما واقترب من أبسط تفاصيل حياتهما، ليكتشف فيما بعد أن عقله كان مغيّباً وانتماءه لفلسطين ضمَره نجاح الاحتلال في عزل الدروز عن عالمهم العربي. اليوم زيدان بات أيقونةَ النضال. فهو يقود حملةً واسعة لمكافحة التجنيد الإجباري لطائفته، كما لا يتوانى عن تقدّم كلّ الفعاليات الوطنيّة، ودحض ادعاءات الاحتلال المشيرة إلى أن حوالي 82% من الدروز خدموا في الجيش، بشكل فاق خدمة اليهود، والبالغ نسبتها 74%.
ويقول زيدان لـ"شبكة قدس": "الإعلام الرسمي الإسرائيلي يؤكد أن حوالي 80% من الدروز خدموا في الجيش، غير أن مؤتمر هرتسليا للأمن القومي أفاد أن نحو 51% من طائفتي تهرّبوا من الجيش. كما أن الرفض ليس موقفاً حديثاً، بل منذ العام 1956؛ لكنّ الضغوطات المجتمعيّة والتضييق على الدروز وقمعهم ساهمت مجتمعةً في إخماد الأصوات الرافضة"، مضيفاً: "إن للمرأة الدور الأبرز في مجابهة التجنيد الإجباري هذه الأيام، بعد أن نالت التعليم العالي وبدأت تنفتح على العوالم الأخرى".
يدقّ زيدان كل أبواب المقاومة الشعبية لإسقاط القانون الذي من الصعب التخلّص منه عبر الكنيست أو المحكمة العسكرية الإسرائيلية، مؤكداً لـ"شبكة قدس" أنه بصدد إعداد دراسة حول تقديم التماسٍ يجبر المؤسسات الأمنية على تزويد الدروز بالأرقام الحقيقية لمجندّيهم، وذلك تحت بند حرية الوصول إلى المعلومات.
وبين يامن وعمر وسيف ومحمود حكاياتٌ أخرى أعلنت حربها على قانون التجنيد الإجباري، لكنها بقيت محتجزة لم تخرج إلى العلن. سبقهما كثيرون، وسيلحق بهم كثيرون كذلك، مخاطبين الاحتلال: "لن نكون وقوداً لنيران حروبكم، ولن نكون جنوداً في جيشكم".