أكتب لك اليوم من دون غيرك لأنّي أحفظ اسمك جيّداً. حرصتُ على أن أتذكّره وأن أردّدهُ كثيراً وأنا أشهق وأرفع يدي إلى شاشة الجهاز كي ألمس وجهك. كان بارداً ومغطّى هو وملابسك بالدمّ. كانت عيناك نصف مفتوحتين وعلى جبينك كانت هناك كدمة زرقاء. كان جسمك الصّغير مُمدّداً في هدوء بين أجساد إخوتك الثّلاثة. هل كنتم تلعبون الغمّيضة قبل أن تجدوا بعضكم البعض على طاولة واحدةٍ من حديد بارد؟ كيف احتمل طفل طريّ العظم مثلك كلّ ذلك؟
لو تعرف ما فعله بي وجهك الملائكيّ الصّغير يا صغيري. أحدهم وضع، إلى جانب صورتك الأخيرة، صورة لك قبل أن يهجم الاحتلال على غزّة بكلّ عتاده الجويّ والبحريّ والبريّ. كنتَ تضحك وكان شعرك الجميل مُسدلاً على جبينك.
لقد مرّت سنةٌ. أ ترى يا صغيري؟ كنتَ ستكبر سنة كاملة أُخرى، تتعلّم فيها المزيد من الكلمات والأسماء وحِيَلاً جديدة في الاختباء عن إخوتك، وكيف تُمسك جيّداً بأقلام الزّينة لتخربش أشياء من عالمك الخاصّ لا يفهما غيرك، كأن ترسم سيّارة فتراها والدتك دبّابةً وترسم بالوناً فيذهب والدك في التّأويل حتّى يراه صاروخاً.
مرّت سنة كنت ستذهب فيها إلى الرّوضة لتتعلّم القرآن واللّعب بالأرجوحة، وكنت ستذهب للبحر صيفاً لتمرّغ يديك الصّغيرتين في الرّمل وتشيّد أشكالاً سرعان ما تهدمها وتضحك ملء روحك وملء براءتك.
لكنّ طيّاراً حربيّاً مُحتلاً لبلادنا قرّر أن يحرمك من كلّ ذلك. بكبسة زرٍّ أنهى القصّة قبل بدايتها واستوى بيتك وحيّ بأكمله بالأرض. احترقت الأحلام الصّغيرة وسكتت الضّحكات العالية. اختلطت الدّمى بالدّم وبالأجساد وبالإسمنت وبالشّظايا.
لقد كان عدواناً همجيّاً بشعاً دام ثمانية أيّام كاملة. كانت رائحة الجريمة تتسرّب من شاشات التّلفاز والحاسوب ومن الخطابات والمقالات والنّصوص لتلتصق بنا جميعاً وبالكرة الأرضيّة كلّها إلى الأبد.
قُصِفت "تلّ أبيب". لأوّل مرّة يخرج صاروخ من غزّة ليسقط في "تلّ أبيب". لكنّ الحديث عن النّصر مُخجلٌ أمام دمك ودم إخوتك وعشرات الشّهداء ومئات الجرحى الذّين دكّتهم كلّ أنواع الصّواريخ والقنابل.
من الواجب أن نُقاوم، وحين نُحرّر بلادنا كلّها سنكتب الشّعر عن انتصاراتنا، سنجد الوقت الكافي لنُلقي الخطابات الطّويلة ولنرفع رايات الأحزاب ونُمجّد القادة.
هل تفهم يا صغيري ما أودّ أن أقوله؟ لا بأس. أعرف أنّ الأمر مُعقّدٌ.
سأحدّثك عن الوضع الآن. أنا متعبة ولا أتذكّر كلّ ما حدث في العام الماضي الّذي رحلت فيه، لكنّي أستطيع أن أؤكّد لك أنّه لم يتغيّر الشّيء الكثير. لازالت غزّة ملكة جمال التّناقضات، سيّدة البساطة، الأمّ التّي تكابر وتقسو بحكمة على أبنائها. لا زالت مُحاصرة من العدوّ والشّقيق، تُقطع عنها الكهرباء لمدّة ساعات في النّهار وتغرق في العتمة في اللّيل وتفيض فيها بكلّ وقاحة مياه الصّرف الصّحيّ لانعدام الغاز والوقود، وتُمنع عنها مواد البناء. لو تمكّن الأعداء لمنعوا عنها الهواء كذلك.
هل رأيت مشهداً دراميّاً غارقاً في السّخرية إلى هذا الحدّ؟
لكنّ غزّة يا صغيري لا تزال واقفة، مشرعة وجهها للبحر والجهات، تشتم وتلعن وتُغنّي مع محمّد عسّاف وفيروز، ترفع الرّايات الصّفراء والخضراء والحمراء ولا ترفع الرّاية البيضاء أبداً.
حدّثني أنت الآن قليلاً. كيف الجنّة يا صغيري؟ هل ترى هديل حدّاد؟ هي أيضاً طفلة من غزّة سبقتك إلى السّماء ذات قصف. لم أستطع أن أنسى اسمها هي أيضاً. كانت صغيرة وجميلة جدّاً. كانت أصغر من أن تخترقها القنبلة. كتبتُ عنها كي أحفظها، كي لا أترك يديها. أ ليس هذا أمراً مثيراً للشّفقة؟ أن لا أجد فعلاً آخراً أمام موتها، وأمام صورتك المرتّبة بتراجيديا قاتلة وأنت ممدّدٌ بين يدي إخوتك؟
أرجوك لا تسخر منّا. لا تسخر من "الأحياء". لا تكرهنا كثيراً، وسامحنا قدر براءتك وقدر عجزنا. لقد تركتَنا للحيرة وللفوضى وللنّظريّات المتشابكة وللصّراعات الدّائمة. فادعُ لنا الله وأنت بين يديه. أنت الآن سفير الأطفال الصّغار وسفير البراءة والحقيقة في الجنّة.
ادعُ لنا الله أن نعرف قيمة الحياة وقيمة الموت وقيمة الكرامة وقيمة الأرض، أن نعرف كيف نحزن بوفاء وأن نُخلص لشهدائنا، أن تسقط عن الجدران الشّعارات الزّائفة وأن نهتدي لدرب استرجاع الوطن وأن نكون شعباً واحداً صالحاً وجديراً بدمك. نوال عبد الله مُدوّنة فلسطينيّة تونسيّة