فالنتينا أزاروف، ونضال سليمان
لمحة عامة انضمت فلسطين لعضوية منظمة اليونسكو في 2011، ولكن ممثليها لم يغتنموا هذه الصفة الجديدة إلى الآن على الوجه الأمثل، وتُعزى بعض الأسباب في ذلك إلى الضغوط التي تمارسها إسرائيل والولايات المتحدة. يستعرض عضو الشبكة نضال سليمان والكاتبة الضيف فالنتينا أزاروف أهمية اليونسكو في السعي لإدراك الحقوق الفلسطينية وتطبيق صكوك القانون الدولي ذات الصِلة على القضية الفلسطينية. ويسوق الكاتبان حُجةً مقنعةً على مقدرة فلسطين على جني منافع عملية كبيرة من عضويتها في اليونسكو، بما في ذلك تأكيد سيادتها على أرضها وبحرها، وإلزام الدول الأخرى بمحاسبة إسرائيل على التزاماتها.1
أهمية اليونسكو في اليوم التالي لفوز فلسطين بعضوية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بتاريخ 30 أكتوبر/تشرين الأول 2011، سرَّع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتيرة بناء 2,000 وحدة سكنية استيطانية، وعلَّق مساهمة إسرائيل في ميزانية اليونسكو. الولايات المتحدة أيضًا قطعت تمويلها عن اليونسكو عقب عضوية فلسطين فيها، مدعيةً أن تشريعات صَدَرت في 1990 و1994 تُجبرها على ذلك. وساقت الولايات المتحدة أيضًا حجةً متناقضة مفادها أن العضوية - المستندة إلى صفة فلسطين كدولة، والمرسِّخة لهذه الصفة - قد قوَّضت الهدف من التفاوض على اتفاق وضع نهائي من شأنه أن يُعلن قيام دولة فلسطينية. إلا أن اليونسكو قد برهنت، حتى قبل عضوية فلسطين فيها، على أنها محفلٌ مهمٌ لتطبيق القانون الدولي فيما يتعلق بالممارسات الإسرائيلية غير القانونية في الأرض الفلسطينية المحتلة. فعلى سبيل المثال، أكدت اليونسكو في عام 2010 أن محاولة إسرائيل لضم الحرم الإبراهيمي/كهف البطاركة في الخليل ومسجد بلال بن رباح (قبر راحيل) في بيت لحم لقائمة التراث الوطني الإسرائيلي تمثل "انتهاكًا للقانون الدولي،" واتفاقات اليونسكو وقرارات الأمم المتحدة. وفي مطلع عام 2012، حذفت إسرائيل الموقعين من قائمة المواقع التي ستخضع للترميم، وعزت ذلك لاعتبارات مالية. وبعد الانضمام لعضوية اليونسكو، صادقت فلسطين على الميثاق التأسيسي للمنظمة، وأصبحت دولةً طرفًا في ثمانية اتفاقات وبروتوكولات ذات صِلة منبثقة عن اليونسكو، بما فيها اتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الملكية الثقافية في حالة نشوب صراع مسلح والبروتوكولين الملحقين بها. يكتسب البروتوكول الثاني الملحق بالاتفاقية أهميةً خاصة إذ ينص على المسؤولية الجنائية الفردية ويفرض عقوبات بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية. بل إن المادة 15 من البروتوكول تنص على السماح للدول بتعقّب مرتكبي الأفعال المذكورة في المادة ومقاضاتهم أمام محاكمها المحلية بغض النظر عن جنسيتهم، كما المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949. حققت فلسطين كذلك بعض المكاسب الملموسة، حيث أضافت كنيسة المهد في بيت لحم إلى قائمة التراث العالمي في يونيو/حزيران 2012، رغم بعض الاحتجاجات في الولايات المتحدة. وكانت أول موقعٍ تضيفه، ولا يزال هناك اثنا عشر موقعاً آخر على قائمة فلسطين المؤقتة. ومع ذلك، رضخ الممثلون الفلسطينيون في يونيو/حزيران 2013 لضغوط إسرائيلية وأمريكية في أعقاب مبادرة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، حيث تخلى الممثلون الفلسطينيون عن مسعى لضم نحو 400 كيلومتر من التضاريس المتدرجة في قرية بتير لقائمة التراث العالمي المعرض للخطر، وركنوا الملف التفصيلي الذي أُعِد بدعم خبراء دوليين مرموقين لترشيح الموقع على الرف. ولو أن الممثلين الفلسطينيين مضوا في مسعاهم، لربما قد ساهموا في إحباط خطط إسرائيل لبناء جزء من الجدار في محيط القرية، وهي الخطط التي تعكف المحكمة العليا الإسرائيلية حاليًا على النظر في الطعن ضدها. وفي أيار/مايو 2013، ألغت إسرائيل زيارةً لبعثة من اليونسكو إلى القدس بعد أن وافقت عليها سابقًا ضمن صفقةٍ توسَّط فيها الروس مقابل أن تؤجل فلسطين خمسة قرارات لليونسكو بشأن التغييرات التي تُحدثها إسرائيل في المدينة. وفي 5 أكتوبر/تشرين الأول 2013، أقرَّت اليونسكو ستة قرارات تدين تصرفات إسرائيل غير القانونية. تُعدّ عضوية فلسطين في اليونسكو اختبارًا لتعزيز حماية حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي على الصعيدين الوطني والدولي. فالتأكيد على مكانة فلسطين كدولة من خلال عضويتها في اليونسكو يُنشئ سابقةً مرجعية للدول المراقبة في الأمم المتحدة للانضمام إلى المؤسسات الدولية الأخرى والمصادقة على قائمة المعاهدات الدولية المودعة لدى الأمين العام للأمم المتحدة، بما فيها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وستستطيع فلسطين أن تعزز قدرتها على المطالبة باحترام الحقوق عن طريق تعبئة دول ثالثة وجهات فاعلة دولية لمطالبة إسرائيل بتغيير ممارساتها وفقًا للقانون الدولي.
تدمير التراث الفلسطيني والاستيلاء عليه ظل التراث الثقافي في ما بات يُعرف اليوم بفلسطين وإسرائيل يتعرض لمدة قرن تقريبًا إلى التدمير والمصادرة على يد الحكومات المختلفة. فمنذ عام 1967، ما انفكت إسرائيل تخرِّب وتدمر مواقع تاريخية وثقافية ودينية وطبيعية في أرجاء مختلفة في الأرض الفلسطينية المحتلة. فقد أقدمت السلطات الإسرائيلية عقب احتلالها القدسَ مباشرةً على هدم حارة المغاربة في البلدة القديمة واستولت على مبانٍ تاريخية ودينية مثل متحف فلسطين للآثار (المعروف الآن باسم متحف روكفلر). ومنذ ضمها غير القانوني للقدس الشرقية، والذي لا تعترف به أي دولة، أخضعت إسرائيل التراث الثقافي في المدينة لتشريعاتها الوطنية. ومن المشاريع الأثرية الجارية حاليًا حديقة "مدينة داود" في حي سلوان بالقدس الشرقية. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2011، تجاهلت المحكمة العليا الإسرائيلية التزامات إسرائيل بموجب المعاهدات والبروتوكولات المنبثقة عن اليونسكو واعتبرت أن الأعمال الأثرية متوافقة مع القانون المحلي الإسرائيلي. وفي مثالٍ صارخ آخر، يعكف مركز سيمون فيزنتال على بناء متحف التسامح في القدس الغربية، الأمر الذي اقتضى إجراء حفريات في مقبرة مأمن الله القديمة واستخراج مئات الجثث والرفات من قبورها. يعود تاريخ المقبرة إلى القرن السابع الميلادي، وأعلنته سلطات الانتداب البريطاني كموقعٍ أثري في عام 1944. ولا تزال أعمال الحفر متواصلة في انتهاك لالتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972 المنبثقة عن اليونسكو، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد تقدَّم مركز الحقوق الدستورية الأمريكي بالتماس إلى هيئات الأمم المتحدة والحكومة السويسرية بالنيابة عن فلسطينيين من ذراري المدفونين في مقبرة مأمن الله في القدس. وفي الضفة الغربية، ألحقت العمليات العسكرية الإسرائيلية في البلدة القديمة في نابلس في عام 2002 أضرارًا واسعة النطاق بالتراث الثقافي، بما في ذلك بهياكل تعود إلى العصور الرومانية والبيزنطية والعثمانية. وقد حاجج البعض بأن الهجوم العسكري الإسرائيلي عام 2002 على كنيسة المهد كان جريمةَ حرب. وعلاوة على ذلك، استخدمت إسرائيل علم الآثار كذريعةٍ لتهجير السكان الفلسطينيين قسرًا، وهدم القرى وفرض السيطرة الإقليمية على الأراضي الفلسطينية لتعزيز مشروعها الاستيطاني غير القانوني واستغلال الموارد الطبيعية في الأرض الفلسطينية المحتلة. وثمة حجة قوية تبرهن على أن كل حالة من هذه الحالات تشكل انتهاكًا لالتزامات إسرائيل القانونية باعتبارها طرفًا في اتفاقية لاهاي لعام 1954 وبروتوكولها الأول، فضلاً على التزاماتها بموجب القوانين الدولية الأخرى. حتى إن تقرير الحريات الدينية لعام 2009 الصادر من وزارة الخارجية الأمريكية يشير إلى الطابع التمييزي لسياسة إسرائيل في قصر الحماية والتمويل على الأماكن المقدسة اليهودية وإهمال الكثير من المواقع الإسلامية والمسيحية والتي تواجه العديد منها "تهديدًا من المقاولين العقاريين والبلديات." ومع ذلك، لم تنفذ إسرائيل التزاماتها القانونية إلى الآن.
القانون الدولي وحماية الملكية الثقافية إن اتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الملكية الثقافية في حالة نشوب صراع مسلح وبروتوكولها الأول يكمِّلان ويعززان الحماية الممنوحة للملكية الثقافية في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وقواعد لاهاي لعام 1907. فالمادة 4 من اتفاقية لاهاي تقتضي من الدول حماية الممتلكات الثقافية من الهجمات و"الدمار أو الأضرار" الأخرى ما لم "تتطلب ذلك ضرورةٌ عسكرية قهرية." تحظر اتفاقية عام 1954 نهب الممتلكات الثقافية، وهي تكمِّل الحظر العام المفروض على النهب في المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تنطبق على السلطة القائمة بالاحتلال والأفراد على حدٍ سواء. تمتلك المحاكم الجنائية الدولية خبرةً في مقاضاة الجرائم المتعلقة بتدمير الممتلكات الثقافية والتعويض عنها. وفي المقابل، أثبتت المحاكم الوطنية أنها أقل جدوى لأنها ليست مُرغَمة سياسيًا، وغير منظَّمة دوليًا من حيث الطريقة التي تلاحق فيها الجناة المزعومين. فقد نُقِضت العديد من القضايا المرفوعة بموجب الولاية القضائية العالمية ضد مسؤولين إسرائيليين في النُظم الوطنية في أوروبا والولايات المتحدة لأسباب سياسية. تتناول الاتفاقية، على وجه التحديد، حالات الاحتلال الحربي. وتحصر المادة 5 منها والمادة 9 من بروتوكولها الثاني سلطة المحتل، على الأكثر، في دعم "السلطات الوطنية المختصة في البلد المحتل من أجل حماية ممتلكاته الثقافية والحفاظ عليها." قنَّنت الاتفاقية الحظر العرفي المفروض على تصدير الممتلكات الثقافية من الأراضي المحتلة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاتجار غير المشروع في القطع الأثرية، بما فيها تلك المستخرجة من أرض محتلة، محظورٌ بموجب اتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة، والتي أصبحت فلسطين الآن دولة طرفًا فيها.
حماية التراث - والتأكيد على السيادة أدانت اليونسكو مرارًا ممارسات إسرائيل غير المشروعة في ظل احتلالها للأرض الفلسطينية، بما في ذلك ممارساتها في القدس، واحتلالها مواقعَ في المدن القديمة في المراكز السكانية الفلسطينية بالضفة الغربية، ورقابتها على المدارس والجامعات الفلسطينية.2 وهذه الادانات مهمة ليس فقط لأنها تؤكد استهجان اليونسكو وإدانتها لتصرفات إسرائيل، بل أيضًا لأنها حَدَت باليونسكو لأنْ تشترط على إسرائيل أن تمتثل لالتزاماتها من أجل المشاركة في برامجها والاستفادة من مزايا العضوية فيها. وكانت هذه هي الحال في عام 1974، على سبيل المثال، عندما حَدَت الحفريات الإسرائيلية في البلدة القديمة من القدس، والتي أُدينت على نطاق واسع، باليونسكو لأنْ تعلق كل مساعداتها الموجهة لإسرائيل. تنص المادة 1 من مواد لجنة القانون الدولي بشأن مسؤولية الدول على أن "كل فعل غير مشروع دوليًا تقوم به الدولة يستتبع مسؤوليتها الدولية."3 ومتى ما ثبتت مسؤولية الدولة عن فعل غير مشروع دوليًا، تلتها عواقب قانونية عديدة. والأهم هو التزام الدولة المسؤولة بموجب المادة 31 "بجبر كامل الخسارة الناجمة عن الفعل غير المشروع دوليًا." يكون إنفاذ أحكام القانون الدولي أكثر فاعلية عندما تكون الدول الثالثة مرغمةً على الوفاء بالتزاماتها الخاصة والقانونية، بما في ذلك القوانين المحلية التي تدرج التزاماتها بموجب القانون الدولي. يضرب موقف كندا إزاء مخطوطات البحر الميت مثالًا جيدًا لكيف أن التزامات الدول الثالثة كانت لتصب في صالح فلسطين لو أنها كانت عضوًا في اليونسكو في وقت أبكر. فقد عرضت سلطة الآثار الإسرائيلية عام 2010 مخطوطات البحر الميت، التي استولى عليها الجيش الإسرائيلي بصورة غير قانونية من متحف فلسطين للآثار بالقدس الشرقية عام 1967، في متحف أونتاريو الملكي. بالرغم من أن الدول الأطراف في اتفاقية لاهاي لعام 1954 ملزَمةٌ بالتحفظ على الممتلكات الثقافية الواردة إلى أراضيها مباشرةً أو بصورة غير مباشرة من الأراضي المحتلة، فإن كندا رفضت القيام بذلك. فبموجب القانون المحلي لكندا، لا يتسنى إلا لدولةٌ عضو في اليونسكو أن تستصدر أمرًا من المحكمة لإنفاذ طلب للتحفظ على الممتلكات الثقافية المستوردة بصورةٍ غير قانونية. وهكذا لم يكن لفلسطين مكانة قانونية للمثول أمام محاكم كندا. غير أن مصادقة فلسطين لاحقًا على اتفاقية لاهاي لعام 1954 وبروتوكوليها الاثنين وعلى اتفاقية الاتجار غير المشروع لعام 1972 تعني أن لفلسطين الآن مكانةً قانونيًة بموجب القوانين المحلية المختلفة للدول الأعضاء. ويتسنى لها أن تطلب منها الإفصاح عمّا في حوزتها من قطع أثرية ذات أصل فلسطيني، وأن تتحفظ على تلك القطع الأثرية وتمنع تصديرها أو عرضها إلى أن تُعاد إلى موطنها الجغرافي. ولا يمكن المبالغة بأهمية الفرصة الكامنة لاتخاذ إجراءات، حيث تشير تقديرات وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ومصادر إسرائيلية إلى أن حوالي 200,000 قطعة أثرية أُخرِجت من الأرض الفلسطينية المحتلة سنويًا بين عامي 1967 و1992، ونحو 120,000 قطعة أثرية أُخرِجت سنويًا منذ العام 1995. ومن الأمثلة لقدرة البلدان على إعادة قطعها الأثرية اتفاقيةُ أُبرمت عام 1993 بين إسرائيل ومصر ونصت على "إرجاع جميع القطع الأثرية والِلقى المأخوذة من سيناء لمصر في غضون العامين المقبلين."4 وتمكنت إثيوبيا من استرداد مِسلة عمرها 1,700 عام من إيطاليا دون الحاجة لاتفاقية، وتسعى الآن لإعادة العديد من الأمور الأخرى والقطع الأثرية القديمة التي نهبها الجنود البريطانيون ووضِعت لاحقًا في المتاحف البريطانية. يمكن لفلسطين أيضًا أن تطالب بحقوقها بموجب اتفاقية عام 2001 بشأن حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه، التي صادقت عليها في 2011، لمساعدتها في فرض سيطرتها على المياه الفلسطينية قبالة سواحل قطاع غزة. فما فتئت إسرائيل تفرض حصارًا بحريًا مقيِّدًا للغاية منذ سنوات، يحصر المساحة المتاحة للفلسطينيين فيما بين 6 و9 أميال بحرية من مياه غزة الإقليمية. يمكن الطعن في هذا الحصار من خلال المقوِّم الأساسي لاتفاقية عام 2001 المتمثل في ترسيم حدود البحر الإقليمي لكل دولة. تمنح المادة 7(1) الدولَ "الحقَّ الحصري في تنظيم وترخيص الأنشطة التي تستهدف التراث الثقافي المغمور بالمياه في مياهها الداخلية ومياهها الأرخبيلية وبحرها الإقليمي" - وهو الجزء من الأراضي السيادية للدولة التي تمتد حتى 12 ميلًا بحريًا من الساحل وفقًا للمادتين 2 و3 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982. تمنح المادتان 8 و23 أيضًا الدولَ الحقَّ في "تنظيم وترخيص الأنشطة التي تستهدف التراث الثقافي المغمور بالمياه" ضمن مساحة 24 ميلًا بحريًا أخرى يُمارَس فيها الاختصاص لأغراض خاصة. والدول أيضًا مسؤولة عن تنظيم أي أنشطة للتنقيب في مناطقها الاقتصادية الخالصة وجرفها القاري، والتي تمتد حتى 200 ميل بحري. يمكن لفلسطين أن تفكِّر في أن تحذو حذو هولندا. فقد أنشأت الحكومة الهولندية منطقةً متاخمة لمنع التعديات على حقوقها في التراث الثقافي، ووسَّعت بوضوح نطاق تشريعها المقبل المعني بالتراث ليشمل بحارها الإقليمية والمنطقة المتاخمة. وفي حالة فلسطين، يمكن اتخاذ إجراءات مماثلة لإنشاء منطقة سيطرة أثرية تمتد 24 ميلًا بحريًا قبالة ساحل غزة. ويمكن لهذا أن يطعن في اكتشافات إسرائيل لحطام السفن قبالة سواحل غزة وأنشطتها من هذا القبيل، وأن يعيد فرض السيطرة الفلسطينية على التراث المحتمل وجوده تحت مياه غزة.5 ويمكن أيضًا لفلسطين أن تطالب بالسيطرة على موارد البحر الميت ومنطقته، والتي تخضع حاليًا لسيطرة إسرائيلية شبه حصرية. يتضح ممّا تقدم أن إطار اليونسكو، إذا ما استُخدم كما ينبغي، سيدعم قدرة فلسطين على استرداد تراثها الثقافي واستعادة السيطرة عليه وممارسة حقوقها السيادية على أرضها لغرض إدارة مواقعها التراثية والإشراف عليها. ومن شأن هذه التدابير أيضًا أن تقيد قدرة إسرائيل على تقديم المواقع الفلسطينية لليونسكو ضمن قائمتها للتراث الوطني. وبالتعبئة الاستراتيجية لموقفها السياسي والقانوني المحسَّن في النظام الدولي، يمكن لفلسطين أن تحشد الدعم لمطالبة إسرائيل بالجبر الكامل للأضرار، بما في ذلك رد الحقوق والتعويض، ولا سيما في حالات تدمير الممتلكات الثقافية الفلسطينية أو تضررها على نحو يتعذر إصلاحه.
واجب فلسطين في حماية التراث الثقافي بوسع صفة الدولة والانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية أن تحمي الحقوق، ولكنها تنطوي أيضًا على التزامات من جانب الدولة الطرف. وبالتالي، فإن فلسطين مطالبةٌ بتعديل نظامها القانوني الوطني ومواءمة مؤسساتها ذات الصلة وفقًا لالتزاماتها بموجب الميثاق التأسيسي لليونسكو والاتفاقات الثمانية التي صادقت عليها. إن التشريعات المعمول بها حاليًا في الأرض الفلسطينية المحتلة – والمؤلفة من قوانين عثمانية، وانتدابية بريطانية، وأردنية (الضفة الغربية)، ومصرية (قطاع غزة)، وإسرائيلية، وقوانين السلطة الفلسطينية (قوانين المجلس التشريعي، والمراسيم الرئاسية، ولوائح مجلس الوزراء، والتوجيهات الوزارية) - لا توفر حمايةً كافية للتراث الثقافي الفلسطيني. فهي مجزأة، وخاضعة لأهواء إسرائيل، ولا تلبي المعايير الدولية. فقانون الآثار رقم 51 لسنة 1929 الذي لا يزال ساريًا في قطاع غزة، ونسخته لسنة 1966 المطبقة في الضفة الغربية، على سبيل المثال، يقتصران على التراث الثقافي المادي. يُلزم القانون الأساسي الفلسطيني الرئيس أن يكون "مخلصًا" لتراث الوطن. غير أن الأدوار والمهام المنوطة بالهيئات المسؤولة رسميًا - وزارة السياحة والآثار ووزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية، واللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم المنبثقة عن منظمة التحرير الفلسطينية – غير محددةٍ بوضوح، ممَّا يعوق القدرة الوطنية على حماية التراث الوطني. وبطبيعة الحال، تفرض إسرائيل قيودًا على منطقة عمليات تلك الهيئات الرسمية، حيث إن الأوامر العسكرية الإسرائيلية المطبقة في المنطقة (ج) من الضفة الغربية توكل كافة الصلاحيات التنظيمية بشأن الملكية الثقافية إلى الضابط العسكري. وبالإضافة إلى ذلك، وسَّعت إسرائيل نطاق تطبيق قانونها المحلي ليشمل القدس الشرقية المحتلة، وأعلنت أن جميع القطع الأثرية غير المكتشفة في المدينة هي ملكها في انتهاك صارخ للقانون الدولي. ومع ذلك، وكما سيأتي في نهاية هذا القسم، فإن من الأهمية بمكان أن تُصدِر السلطات الفلسطينية التشريعات اللازمة بما يتماشى مع المعايير الدولية، فهذا سيصعِّب على إسرائيل مواصلة استخراج التراث الفلسطيني من الأرض الفلسطينية المحتلة بصورة غير قانونية، وسيمكِّن السلطات الفلسطينية من متابعة الإجراءات القانونية في بلدان ثالثة لاسترداد هذه الممتلكات الثقافية. وبمساعدة فنية من منظمة اليونسكو، أحيت وزارة السياحة والآثار التابعة للسلطة الفلسطينية مبادرةً لصياغة تشريعات حديثة في 2011. وفي العام 2012، أُعدَّ مشروعا قانونين لحماية التراث الثقافي المادي وغير المادي بالتشاور مع أصحاب المصلحة العامة والخاصة، وراعى المشروعان الالتزامات الدولية لفلسطين بموجب الميثاق التأسيسي لليونسكو ومعاهداتها، وأفضل الممارسات الدولية، بما فيها القوانين النموذجية التي أعدتها المنظمة العالمية للملكية الفكرية وجامعة الدول العربية. تضم الأحكام الرئيسية في مشروع قانون التراث الثقافي المادي لسنة 2012 مبدأ الملكية العامة للتراث الثقافي، وحظرًا على بيع الممتلكات الثقافية ونقلها، وآليةً لتمكين السلطات المحلية من استرداد الممتلكات الثقافية المأخوذة بصورة غير قانونية من الأراضي المحتلة. ويُلزِم مشروعُ القانونِ الدولةَ بالمصادقة على الاتفاقات الدولية التي تهدف إلى حماية التراث الثقافي. ولأن القدرة والموارد المتاحة لإدارة المواقع التراثية في فلسطين وحفظها لا تزال محدودةً، ممّا يؤدي إلى تراكم عمليات التوثيق والحفظ، فإن مشروع القانون يسعى إلى معالجة هذا الوضع من خلال إنشاء هيئة مستقلة لحفظ التراث الثقافي في فلسطين وحمايته وتطويره. أما مشروع القانون لسنة 2012 بشأن التراث الثقافي غير المادي فهو يشمل الرقص الشعبي الفلسطيني، والتطريز، والحكاية، وأشكال ثقافية أخرى. ويتناول تدابير صون التراث الثقافي غير المادي ويحدد الجرائم الجنائية التي يمكن أن تُرتَكب بحق هذا التراث. ونظرًا لتوقف عمل المجلس التشريعي الفلسطيني منذ عام 2007 بسبب القيود الإسرائيلية، والسياسة الفلسطينية الداخلية، فإن سنّ القوانين رسميًا في المستقبل المنظور هو أمرٌ مستبعدٌ للأسف. ولم تُرفَع القوانين إلى مجلس الوزراء في السلطة الفلسطينية لمراجعتها والمصادقة عليها قبل عرضها على الرئيس لإصدار مرسوم كما فَعَلَ في حالات أخرى. إن التزامات فلسطين بموجب القانون الدولي الخاص بالمعاهدات بالإضافة إلى الحاجة العملية الماسة لحماية التراث الثقافي الفلسطيني في وجه التهديدات ينبغي أن تشكِّل حوافز لضمان مطابقة التشريعات والممارسات الفلسطينية مع المعايير الدولية. فبوسع مشروعي القانونين، في حال إقرارهما، أن يعزِّزا إلى حد كبير الإطار القانوني الوطني الفلسطيني، ويردعا الانتهاكات المحلية، ويقويا موقف فلسطين في البلدان الثالثة والمؤسسات الدولية من حيث القدرة على الطعن في الأفعال الإسرائيلية غير القانونية ومنعها واتخاذ إجراءات حيالها. وعلى سبيل المثال، وفي إطار حُكمٍ صدر مؤخرًا من المحكمة الإسرائيلية العليا، ادعى أحد المتهمين في قضيةٍ تنطوي على استخراج غير قانوني لممتلكات ثقافية من الأراضي الفلسطينية المحتلة بأن القانون المعمول به حاليًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا ينص على أن جميع الممتلكات الثقافية غير المكتشفة هي ملك للدولة (كما هي الحال بموجب القانون الإسرائيلي) ولذلك فإن المسؤولية تقع على عاتق المدعي العام للدولة لكي يُثبت أن الممتلكات الثقافية مسروقة. بيد أن المحكمة رفضت هذه الحجة، وفي الوقت نفسه، تجاهلت القانون الدولي الذي يحظر إخراج الممتلكات الثقافية من الأرض الفلسطينية المحتلة. وتبرهن هذه القضية على الضرورة الملحة لإصدار قانون فلسطيني فعال وواضح ينص بأن ملكية جميع الممتلكات الثقافية التي يُعثر عليها في فلسطين تعود للدولة.
الاستنتاجات والتوصيات توفر اتفاقات اليونسكو وصكوكها إطارًا لضبط تراث فلسطين الثقافي وحمايته، وفرصةً للاستفادة من التعاون الدولي لحماية التراث الثقافي، استنادًا إلى القانون المدوَّن. فبتقييد دور السلطة القائمة بالاحتلال تقييدًا صارمًا فيما يتعلق باستخراج الممتلكات الثقافية واستخدامها في الأراضي المحتلة، فإن اتفاقية لاهاي لعام 1954، وغيرها من الصكوك، تحمي حقوق الحكومة الشرعية وشعبها في ممتلكاتهم الثقافية وتراثهم الثقافي إبان النزاعات المسلحة.
وبعد انضمام فلسطين مؤخرًا لعضوية اليونسكو واكتساب القدرة على الانضمام إلى معاهدات أخرى، غدت فلسطين اليوم في موقفٍ أفضل من أي وقت مضى للسعي لاسترداد ممتلكاتها الثقافية المستخرجة أو المتداولة بطرق غير مشروعة، ولفرض سيطرتها على تراثها المغمور بالمياه في منطقتها الاقتصادية الخالصة ومياهها الإقليمية قبالة غزة، وإدراج مواقع وطنية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وشطبها من أجندة المفاوضات السياسية من خلال تأمين سيادتها الوطنية عليها. وقد غدت فلسطين أيضًا في موقف أفضل لتحري إمكانيات التقاضي واتخاذ إجراءات قانونية أخرى في الولايات القضائية المحلية الأجنبية لتيسير عملية استرداد القطع الأثرية وجلب المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في التنقيبات غير القانونية إلى العدالة.
يمكن لفلسطين أن تطالب بحقوقها من خلال العمل مع مؤسسات اليونسكو والسعي لإرغام الدول الثالثة والأطراف الدولية الفاعلة للضغط على إسرائيل للامتثال لالتزاماتها أمام اليونسكو. وبالنظر إلى سجل إسرائيل الحافل بالأفعال غير المشروعة في هذا المجال (ومجالات أخرى)، ينبغي لعلاقات الدول الثالثة بإسرائيل أن تُنظَّم بطريقةٍ تضمن امتثال إسرائيل بنية حسنة للقانون الدولي لضمان قدرة الدول الثالثة أو الجهات الدولية الفاعلة، كالاتحاد الأوروبي، على احترام التزاماتها القانونية الدولية والمحلية. وفي المقابل، ينبغي أن تُظهر فلسطين التزامها حَسَن النية بإطار حماية اليونسكو من خلال اعتماد التدابير القانونية والإدارية اللازمة في قانونها الوطني والسعي لإنفاذها قدر المستطاع، طالما تواصل إسرائيل فرضَ سيطرة رئيسية على الأرض الفلسطينية. إنَّ عجز المؤسسات الفلسطينية المحلية عن إنفاذ القوانين والسياسات الوطنية يوضح انتهاكات إسرائيل لالتزاماتها القانونية الدولية، ناهيك عن سرقتها التراثَ الفلسطيني، والإضرارِ به وتدميره. إن من مصلحة فلسطين أن تمتثل للالتزامات القانونية الدولية المقترنة بعضوية اليونسكو، وأن تنظر في خياراتها المتاحة للوفاء بتلك الالتزامات من خلال المحافل الدولية لليونسكو وفي النظم الداخلية للدول الثالثة، والتي ينبغي بموجبها الاتفاق على إجراءٍ للإخطار في سياق اليونسكو من أجل تيسير إعادة الممتلكات الثقافية إلى أصولها وسياقاتها الجغرافية. إن توفير الحماية القانونية الكافية للتراث الثقافي على المستوى الوطني سوف يدعم جهود فلسطين لاستعادة حيازة ممتلكاتها الثقافية المسروقة ويعزز جهودها الرامية لاستعادة السيطرة على أراضيها. وحالما يتم التوافق على مشاريع القوانين الفلسطينية وتوضع اللمسات النهائية عليها بالتشاور مع أصحاب المصلحة كافة، بما في ذلك القطاع الخاص والمجتمع المدني، فإنه ينبغي أن تمرّ عبر العملية التشريعية القائمة في السلطة الفلسطينية. وبموازاة ذلك، ينبغي إجراء جرد فلسطيني موثَّق للقطع الأثرية المنقولة ومواقع التنقيب. وينبغي أن تنشَطَ منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية أكثر في دعوة الحكومة الفلسطينية إلى اتخاذ التدابير المناسبة لحماية التراث الثقافي في فلسطين بإقرار مشاريع القوانين وتعزيز المؤسسات الوطنية المكلَّفة بحماية التراث الثقافي في فلسطين. وبوسع منظمات المجتمع المدني أيضًا أن تلعب دورًا مهمًا في زيادة الوعي محليًا ودوليًا بضرورة فصل مسألة حماية التراث الثقافي عن سياسة "عملية السلام". وفي نهاية المطاف، لن تتسنى حماية التراث الثقافي والطبيعي في فلسطين بفاعلية إلا بإعادة ربط الشعب الفلسطيني بهذا التراث. وتُعَدُّ الاستفادة السليمة من إطار اليونسكو، على الصعيدين الوطني والدولي، خطوةً حاسمة نحو تمكين فلسطين من السيطرة على تراثها الثقافي من خلال إدارته وتنظيمه بموجب قانونها السيادي وفقًا للمعايير الدولية.
*نشر مسبقاً في موقع الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية.