"تعيش الصحافة الورقية الفلسطينية مأزقاً". لا جديد في الوصف. هي العبارة ذاتها منذ سنوات طويلة تستعذب المأزق! كل ما في الأمر أن صحفيين يثيرون الأمر إعلامياً فتلتقطه الجزيرة وتخصص له دقائق بثّ وتتبعها وكالات إخبارية دولية، فيبدو الأمر وكأننا حيال مستجد خطر. يتحدثون عن تراجع في توزيع الأعداد لمستويات غير مسبوقة، وعن تهديد من الصحافة الإلكترونية ودور الانقسام بين الضفة وغزة في تعميق المأزق.
عند الحديث عن الصحافة الورقية التقليدية في فلسطين (يستنثى منها تلك الناطقة باسم الأحزاب والفصائل)، لا بدّ من التطرق إلى أحدث “صحيفة” ورقية فلسطينية، صحيفة "الوسيط". من المهم الإشارة إلى أن هذه الجريدة التي لم يتجاوز عمرها السنوات الثلاث توزع أعداداً أكبر من الصحف التقليدية الثلاث الكبرى مجتمعة، ولهذا أسبابه. فعلى مستوى المضمون تقدم الصحيفة لقارئها ما يحتاجه، سواء انتمى لطبقة كادحة أم مرفّهة، وسواء أكان شاباً أم كهلاً، رجلاً أم امرأة، ابن ريف أم ابن مدينة. هي صحيفة تعرف حاجة الناس وتوفرها بطريقة لم يسبقها إليها أحد.
على مستوى الشكل، قطعها صغير وعدد صفحاتها معقول، تمكن قراءتها في الشارع وفي الحافلة، بل ويمكن حملها باليد لمسافات طويلة دون أن تشكل أية إعاقة أو إزعاج ويمكن دسها بأية حقيبة، وحتى التخلص منها بيسرٍ عند الرغبة. باختصار هي صحيفة مختلفة عن السائد في ساحة الصحافة الورقية الفلسطينية، وقد أكدت تفوقها مع كل أسبوع، ومن المهم القول إن القائمين عليها يدركون على ما يبدو أن لا حاجة لصدورها يومياً، فالمنطق يقول إن لم يكن لديك جديد يومياً، فلا حاجة بك إلى جريدة يومية، يكفي عدد كل أسبوع، بخلاف الصحف التقليدية التي تصدر كل يوم دون مبرر واضح.
لا يأتي الحديث هنا في إطار الدعاية للجريدة الناجحة، فهي ببساطة لا تحتاج لذلك، فالوسيط إعلانياً هي وجهة كل من يريد الترويج لنفسه، لأنها جريدة إعلانات وحسب، تنشر أرقاماً ومعلومات عن شقق وسيارات وحيوانات أليفة وكل أشكال المشتريات المتوفرة، جريدة إعلانية وحسب، ككل الصحف الإعلانية في العالم، والحديث عنها أفضل مدخل لفهم "المأزق" الذي تعيشه الصحافة الورقية الفلسطينية.
ما حاجة القارئ لصحف لا يتذكر قراؤها متى كان آخر سبق صحفي نشرته! ولا يذكر متابعوها أي مقابلة صحفية كشفت مستوراً أو قادت إلى تحقيق. ما فائدة التحقيق الصحفي إن لم يكشف شيئاً وقال ما يعرفه الجميع؟ بعيداً عن أي شأن سياسي أو محلي قد يجلب عناء؛ ما حاجة القارئ لصفحات ثقافية لا تقول إلا: "امتلأت المقاعد عن آخرها، ودب التصفيق في المدرجات، وأبدى الجميع إعجابهم بالأداء الأخاذ المذهل العجيب، وطالبوا بالمزيد"، وكل هذا يقرن بمعاني وطنية مجترة؟
ما حاجة القارئ إلى أعمدة رأي يكتب فيها الناس أنفسهم منذ سنين نصوصاً أقرب إلى المذكرات، ولا تكلف الصحف نفسها عناء استفتاء قرائها إن كانوا يقرؤون أعمدة الرأي وسطوره لتتأكد إن كان هنالك من يقرؤها غير الكاتب نفسه؟ ما حاجة القارئ إلى صحيفة تنشر البيان الصحفي حرفياً على أنه خبر وتنسبه لنفسها، وفي حالات كثيرة موثقة تنشر الخبر نفسه ثلاث مرات في العدد نفسه، وماذا يعني أن يتقاضى مقاولو الصحف أثماناً من المؤسسات والشركات التي يروجون لها وتغض صحفهم النظر عن الأمر، بل وتتكسب من خلاله؟ ما توزعه الصحف الورقية الفلسطينية كثير جداً بالقياس إلى ما تحتويه.
بالعودة لجريدة "الوسيط"، فالطريف أن الصحافة الورقية التقليدية لا تقل إعلانية عنها، ولكن حتى في الإعلانات تقدم للقارئ ما لا يحتاجه وما يغزو أوقاته المتلفزة والإذاعية، والأخبار فيها حصيلة مؤتمرات صحفية لا تقول شيئاً. كأن المؤتمرات الصحفية في مناطق السلطة تحمل أخباراً؛ ناهيك عن حملات العلاقات العامة لمؤسسات وشخصيات، وهي واضحة ولا تتكلف الصحف عناء المواربة في ترويجها لزعيم أو مؤسسة.
تعيش الصحف الفلسطينية على الاشتراكات بأشكالها المتعددة. إحداها تنطق بلسان السلطة، تنشر أخبارها، وتحديداً العطاءات ومناقصات المشاريع، وأخرى تركن لماضيها الذي لا تجد له أي أثر في صفحاتها إلا عبارة تقول "قبل عشرين عاماً"؛ وأخرى كان يفترض بها أن تملأ الفراغ بين كسل القطاع العام وفقره، وجشع القطاع الخاص ومعاييره، فإذا بها تتوه بين الاثنتين وتعتاش على مطابعها وتقارب الإفلاس مع تراكم ديون السلطة؛ كما أن إدراك أن الصفحات المترجمة عن الصحافة الإسرائيلية هي التي تجذب مجموعة من قرّاء بعض هذه الصحف حقيقة مؤسفة أخرى، والأهم أن هذا الوضع أعدم كل منافسة بين الصحف الفلسطينيّة الثلاث ورسّخ قناعة أن قراء كل صحيفة مضمونون، ولا رغبة بأي قارئ جديد ولا أية رؤية تطويرية. حتى أي تطوير شكلي لم يكن وارداً، ومن العجيب الإصرار على القطع الكبير المزعج وأوراقه العتيقة. أهم صحف العالم وأعرقها استبدلت به القطع الصغير. ما حاجة القارئ إلى ثلاث صحف تغطي أوراقها أرضية منزله كلها وتغري بتجديد الطلاء المتآكل!
حتى الأخبار الطريفة الخفيفة تنقلها الصحف من المواقع الإلكترونية وتفرد لها صفحة أو صفحتين وتنشرها بعد مدة تصل لأسبوع. كل هذا لتوفير كلفة الاشتراك مع جملة وكالات عالمية توفر أخباراً طازجة لم تصل لها يد الصحافة الإلكترونية، ولا يمكن لأي كان الحديث عن أزمات مالية؛ صفحة الاجتماعيات والتعازي في الصحف تورد وحدها مبالغ فلكية، ناهيك عن إعلانات الشركات ومؤسسات المجتمع المدني والجهات الحكومية، وبيع الملاحق للشركات والمؤسسات تحت بند "برعاية".
عند التفكير بالعاملين في هذه الصحف يمكن التساؤل ببساطة: ما حاجة الصحفي لكتابة مادة جادة إن كان كل ما مضى كافياً، ويكفل راتب آخر الشهر الشحيح؟ من سيحفل بنصه المختلف المميز، هذا إن لم يشعر رئيس التحرير بالتهديد من النبرة المختلفة، ولم يُعمِل المحررون فيه معاولهم الصدئة التي يحركها اللاوعي المشغول بالراتب ورضى المسؤولين. الأهم أن معظم العاملين في الصحف الورقية يعملون لوكالات ووسائل إعلام أخرى، وشتان شتان بين ما يكتبون هنا وما يكتبون هناك، وكالغالبية الأعم من المؤسسات في ظل السلطة سواء أكانت تابعة لها أم لا، تتحول مع الزمن لمصدر دخل وباب اعتياش فقط.
قبل عدة أشهر استقال عارف حجاوي رئيس تحرير صحيفة الحياة الجديدة - الصحيفة الرسمية في مناطق السلطة الفلسطينية - بعد ستة أشهر فقط على استلامه منصبه، ومرت الاستقالة دون ضجيج إلا في أوساط الصحفيين الذين لم يفلحوا في نقل الجدل للعلن، ربما لأسباب عملية تتعلق بحفظ وظائفهم. لكن سؤالاً بسيطاً عن سبب استقالة حجاوي الذي شغل منصب مدير البرامج في قناة الجزيرة لعشر سنوات، وكان دون منازعة أحد أبرز الإذاعيين الفلسطينيين لسنوات طوال، وأحد أساتذة الإعلام الذين تتلمذ على يدهم من يعلّمون الإعلام والصحافة في الجامعات الفلسطينية اليوم؛ كفيل بتوفير إجابة. عارف حجاوي في رام الله ويدرب طلبة الإعلام والصحفيين في جامعة بيرزيت يمكن أن يسأله أي كان عن سبب الاستقالة وأسباب مأزق الصحافة الورقية الفلسطينية. بالتأكيد سيفيده المحرر الفذ والموسيقي بإجابة وافية وبأسباب أخرى غير الواردة أعلاه.
*عن موقع "رصيف 22"