ثمر زيدان ماتت، وشبعت موتاً، فهي لم تعد واقفةً على حافة الموت تحاول القفز عنها والانتقال لمربع الحياة. ثمر وقعت بحفرة الموت وانتهى الأمر. لا يهم متى وأين وكيف ماتت، ولا تغيّر من حقيقة موتها غير القابلة للتكذيب طريقة وأداة الإجهاز على حياتها إن كانت حرقاً أو خنقاً أو رمياً بالرصاص أو اغتصاباً حيوانياً، ولن تنتفي عنا صفة العجز إن طفت على السطح الخطوات العملية لقتلها بعيداً عن التنظير، ولن نتمكن من البصق بوجه السلطة الذكورية المصوّبة سلاحها نحو رقبتها لو علمنا أن نازع روحها قتلها حينما كانت وحيدةً في غرفتها تصفّف شعرها، فاستفّرد بها وأسقط كلّ رجولته المزعومة على رقبتها المغلوبة على أمرها، أم تخلّص منها إلى غير رجعة بتوفّر شهودٍ على ذلك!
تلك المسكينة لم تبصق ولم تلعن ولم تصرخ ولم تثُر. طيب ما الذي تبقّى من حياتها إن كانت كلّ الأفعال السابقة خارج تغطية حياتها اليومية؟ لم يتبقَّ منها إلا ذكراها. ذكرى، إن كانت ثمر سعيدة الحظ، يتم إحياؤها لمرةٍ واحدةٍ في العام. وإن غادر ذاك العام وجاء عامٌ آخر، انعدمت ذكراها ووُلدت ذكرى جديدة لأحد عناصر جنسها الأنثوي ذوات الحظ التعيس نفسه، بشرط الإبقاء على عويل المؤسسات النسويّة ومنظِّرات "الجندر" على خصم فتاتين أو ثلاث من هذه الحياة وإضافتهن إلى الموت. عويلٌ يتخلّص من التقليدية، ويتزيّن بثوبٍ حداثي عصري، فيغلّف ذاته بطريقةٍ ظريفة جداً تتمثّل في تنظيمها جنازةً رمزية سنوية، مع بدء موسم "كفى عنفاً".
ثمر التي قتلها والدها في دير الغصون بطولكرم لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، طالما نمارس الإصرار على ترديد عبارة "نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً"، ونسير باتجاهٍ عكسيٍّ لها حينما تقرع "سمعة العيلة" بابنا. اليوم، من يجرّد قاتل ثمر بداعي الشرف من إنسانيته، ويبدأ بضخ كلّ عبارات القرف والتقزّز من رائدي بعث العصر الجاهلي من جديد، يعاود غداً ليبتكر أسلوباً جديداً ومشوّقاً في نقل شقيقته من فوق التراب إلى تحته. هو ببساطة يتصنّع إدانة وشجب كلّ أفعال القتل بحجة الشرف، طالما القضية خارج دائرة عائلته، لكن ما يلبث أن يتحوّل إلى غولٍ لا مثيل له حينما تقتحم قضية "الشرف" منزله وتهدّد أسوار عائلته المنيعة!
يومان أو ثلاثةٌ كفيلةٌ بنقلة نوعية في موقف قاتل ثمر زيدان. موقفٌ ينتقل بسلاسةٍ وخفة من التحريم إلى التحليل. تحليلٌ لم يودُّ الانطلاق إلا من ورقةٍ يتيمة أعلنت العائلة من خلالها براءتها من القاتل قبل أن يحاول ردّ الاعتبار لها عبر زفرة موت ابنته ثمر. ورقةٌ خطّت حروف البراءة من الأب لتقف سداً منيعاً بوجه ما أسمته "أفعال مشينة وسلوك متكرر يخالف شرع الله والعادات والأخلاق الحميدة" ، فما عاد هناك أسهل من تمرير ورقةٍ على كل ذكور العائلة، ويا حبذا مشاركة أطفالها من دون 18 عاماً لشرعنة القتل بداعي الشرف عاجلاً أم آجلاً! هذه الورقة اللعينة زيّنها اسم النائب عن حماس في "التشريعي" عبد الرحمن زيدان، فكان ثاني الموقّعين عليها. فضّل النائب عدم الجلوس في المقعد الأول من الورقة، فتراجع إلى ثاني مقعد، لتبدأ بقية أسماء أفراد عائلته من بعده بحجز مقاعدها طوعاً أو كرهاً!
قَاتَل القاتل باستبسال ليكسب رزمةً من التزامات العائلة العشائرية والعرفية تجاهه، مهما كلفه الثمن وأياً كانت طريقة التمتّع بتلك الرزمة. لا أدري إن كان له ذلك، وحالفه الحظ في أن يمنح ذاته فرصة تطهيره من ذنبه، بعد أن نجح بجدارة في غسل عاره أم لا، لكنّ كلّ ما أعلمه أن الورقة المحتضِنة لعبارة "الأفعال المشينة" كانت فعلاً مشيناً بحد ذاته. فعلٌ مشين لم يتوقف عند حدود الورقة، بل توسّعت رقعته أكثر وتمدّدت بفعل جهةٍ تشريعية يفترض بها أن تمدّ بعمر الإنسان مهما كان جنسه، لا أن تقصّره وتسخطه. تلك الجهة فوّضت أحد نوابها ليتكفّل أمر عائلته ويطرد العار وقلة الشرف منها بأي طريقةٍ يريدها "ورقة.. توقيع.. براءة"!
هنا، لا مجال لمزايدة "فتح" على "حماس"، ولا مجال أيضاً للهروب والفرار إلا من تصنّعها دور الجهة التقدميّة النابذة للقتل، والشواهد على ذلك كثيرة، فالورقة الممهِّدة للقتل بشكلٍ أو بآخر لم تخلُ من تواقيع لوجهاء وقيادات فتحاوية، لكنّ من يفتح عيناً ويغمض الأخرى حوّل قضيتنا نحن، بل قضية الإنسانية جمعاء إلى قضيةٍ تعلو فيها المناكفات السياسية إلى أقصى حد، وتهبط فيها مفاهيم الحياة إلى الحضيض.
لم تعنِ ثمر للمواقع الفتحاوية شيئاً، أو بالأحرى هي أدنى من الشيء. هي لا شيء، فيما كلّ الشيء مقصورٌ على زجّ "حماس" بالقضية، فلو كان النائب فتحاوياً، لما لمحنا اسم ثمر ولو مرةً واحدة على صفحاتهم ومواقعهم، أو ربما لأصبح القتل شرعيّاً جداً في حضرة "فتح" وتحت مظلتها! من يمثّل وقوفه اليوم بجانب ثمر، وقف بالأمس ضد نيفين وريتا وسحر ونعتهن بالعاهرات والساقطات، فقط للعنهنّ سلطة أوسلو التي لم تؤاخذ نفسها لقتلها روبين وجهاد ويونس وأمجد، فأصرت على أن تسير في جنازتهم جميعاً. من يقف مع المرأة يا "فتح"، يفترض به أن يتخلى عن نهج الانتقائية، فلا يشجب جرائم قلة الشرف نكايةً في "حماس"، ويعود في وقتٍ لاحق لنعت المتظاهرات الرافضات للمفاوضات بالعاهرات! لا أصدق أحداً إن كان فتحاوياً، حمساوياً، أو جبهاوياً. الكلّ يدور في فلكٍ واحد. فلك التصيّد لبعضهم البعض، والحديث باسم المرأة حينما يكون الجاني أحد خصومهم السياسيين!
وإن كانت الجهة التشريعية تقتل أنثى بداعي الشرف، فالقضائية ستقتل اثنتين، فالتنفيذية ستقتل خمساً أو أكثر! وإن كانت عائلة زيدان قتلت ابنتها مرة واحدة، فالمؤسسات النسوية التي صدّعت رؤوسنا بتحرير المرأة قتلتها ألف مرة أو ما يزيد! تلك الأصوات النسوية لن تتحرّر من خسارة معركتها الأبدية مع قوانين العقوبات المخفّفة، طالما سقف طموحها يتمثّل في كتابة قصة نجاحٍ عن فتاةٍ تمكّنت من التمرّد على السلطة الذكورية، فاختارت خلع الحجاب مصيراً لها!
وهنا، لا أقلّل من شأن ذلك بالمطلق، لكن ما أحقّر من شأنه وأكفر به رفعها لشعاراتٍ عاجزة عن أن تحيلها إلى واقع معاش. تطالب بالتحرّر من قبضة الرجل، وهي لا تعرف طريقها في ضمان الحياة لا الموت لكل نساء العالم. كيف لثمر أن تصفّق لتلك الأصوات وهي ما تزال محبوسةً خانقةً لنفسها لا تعلنها مسألة حياةٍ أو موت، فتدخل حربها مع الدولة حينما تشرّع القتل بداعي الشرف وتحتضنه إلى أبعد حدٍ ممكن. دور الكلّ ثابت والعدد متغيّر. رقمٌ يتفاوت من شهر لآخر ومن عام لآخر، فيما تبقى الأسماء ساكنةً غير متحركة، والوجوه تشبه ملامح بعضها.
كلنا قتل ثمر إن كنا يمينيين أو يساريين، منفتحين أو منغلقين، ذكوراً أو إناثاً، مؤيدين للقتل أم معارضين له. لم نقتلها على وجه الخطأ. قتلناها عمداً مع سبق الإصرار والترصّد. قتلناها حينما لطمنا على من سبقتها ليومين، لشهرين، لعامين، ثم طويناها كما سنطوي ثمر ومن بعدها! ثمر أنتِ من عشتِ ونحن من متنا! هنيئاً لكِ!