كنزة خضراء تبلغ من العمر 43 عاماً ملطخة بدمائه وحطّة حمراء من جيلها. سلاح روسي قديم يسمى "كارلو" والعديد من رسائل الكبسولة هي شخصيات تمد أيديها باتجاه بعضها البعض لتنسج لنا حكاية من حكايات البنادق.
صاحب الحكاية هذه المرة لم يطلب المجد، لكنه حاول أن يصنعه بكل قوة. حجته دائماً أن "الأيدي التي تصنع من حجارة سجن النقب تحفاً لأبنائها لن تهزم أبداً". وبين الوطن والمعتقلات تعيش التفاصيل، ليس تاريخ الميلاد أو الوفاة ما يهمنا، إنما التاريخ بين هذين التاريخين.
لا يمكن للنضال أن يكون متمثّلاً في حمل البندقية فقط، إنما التمتع بأخلاق المناضل الشريف الذي يلجّ قلوب الناس دون استئذان هو ما يوفر الاستمرارية له. هكذا عرفت أبي، وهكذا أود لكم أن تعرفوه.
سعيد عبد شبات:
ولد والدي في التاسع والعشرين من يناير من العام 1946 في قرية بيت حانون لأسرة فلاحة فقيرة، وأخ لثلاثة إخوة يسبقونه وثلاثة آخرين يتبعونه. لجأ مع أسرته في العام 1948 إلى مخيم جباليا للاجئين، وبعد ثلاثة أشهر عادوا جميعاً إلى قريتهم بعد تبادلٍ للأراضي بين الجيش المصري الذي كان يتحصن في قرية الفالوجة والعصابات الصهيونية التي احتلت بيت حانون، ليُرسم خطّ الهدنة فيما بعد على حدود هذه القرية وليصبح سكانها يحملون "بطاقة لاجئ".
أنهى والدي تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في مخيم جباليا. وهنا، كلماته عن اضطراره للذهاب إلى المدرسة حافيَ القدمين من شدة العوز ما تزال تصّدح في أذنيّ. يا إلهي كم كنت أحسّ بشعورٍ غريب موجع حينما كان يقول: "إذا حالفني الحظ سأجد "شبشبا" بلاستيكيا لأرتديه في أيام الشتاء القارص". ومما كان يتندر به دائما أن والدته كانت تجيد طبخ "الخبيزة" كل يوم طالما توفر لها ذلك.
منذ الصغر حاول أن يكفل نفسه ويتكفل بتدبير كسوته المدرسية بنفسه، حيث كان يعمل عاملاً بسيطاً في البيارات أثناء موسم الحصاد، كي يتوفر له القليل من الدخل ليشتري به لوازم المدرسة، ويذهب الى السينما مرة أو مرتين إذا حالفه الحظ.
كمناضل تشكل وعيه الوطني في عام 1964 تزامناً مع انضمامه لحركة القومين العرب، وفي عام 1967 اضطر للنزوح من قطاع غزة إلى مصر على إثر نكسة حزيران من ذلك العام. وهناك، التقى بالحكيم جورج حبش أثناء جولة الأخير لتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقد لاقى خطّ الجبهة استحساناً لدى والدي وتبناه على الفور.
وفي العام 1969 عاد الى أرض الوطن عبر إجراءات للصليب الأحمر مع عدد محدود جداً من النازحين الفلسطينيين المقيمين في مصر. فور عودته شكّل ومجموعة من رفاقه جلّهم من نفس البلدة مجموعة فدائية نفذت العديد من الكمائن ضدّ الدوريات الإسرائيلية. وكان والدي يحدثنا كثيراً عن شدة الأعمال الفدائية وقوة المقاومة في ذلك الوقت، لدرجة إجبار العدو الاسرائيلي على الانتظار لساعات طويلة قبل أن يفكر يإرسال دورية النجدة للدوريات التي تستهدفها المقاومة.
في شهر إبريل من العام 1970 اعتقل والدي وكل أفراد خليته ووجهت له تهم بممارسة "أعمال إرهابية ضد دولة إسرائيل"، إضافةً الى قيام مجموعته بكشف العديد من المتخابرين مع المحتل وتصفية بعضهم، إلى أن حكم عليه بالسجن مدى الحياة. أذكر أنني سألته عن شعوره عند نطق القاضي الإسرائيلي بهذا الحكم، فأجابني أنه طلب من والدته أن "تزغرد" بإشارةٍ لتحدي السجان والحكم.
ويقول والدي إن للمعتقل أبرز التأثير في شخصيته ومكوناتها وكينوناتها، ففيه تعلم الصبر والانضباطية والعمل بروح الفريق المتكامل. ومن شدة فخره وانتمائه لرفاقه كان يقصّ علينا بشكل دوري قصص التحقيق وأيام الإضراب عن الطعام، إضافةً لاجتماعات التثقيف وممارسة الرياضة وروح الاشتراكية التي جمعتهم سويةً.
يصفه رفاقه بالرجل صاحب الابتسامة الجميلة وأحد دروع التحدي. في العام 1985 كان والدي على موعدٍ مع الحرية ضمن صفقة تبادل الأسرى المشهورة باسم "صفقة أحمد جبريل". حكايات المعتقل رافقته طوال حياته، فلم يتأفف يوما للإجابة عن أسئلتنا الكثيرة حول ظروف الاعتقال ولم يتوانَ أبداً عن تأريخ التجربة لما فيها من غنى وطني ووعي حزبي، برفقة أصدقائه في سجن النقب الصحراوي الذين حوّلوا خيام الموت الى أكاديمية ثورية يزرعون في صفوف بعضهم الوعي والمعرفة والأمل.
برز دوره القيادي في العمل مع اللجان الشعبية التي أنشأتها الأحزاب بناءً على تداعيات انتفاضة الحجارة "الانتفاضة الأولى". في ذلك الوقت- وكما يقال الآن- كانت بيت حانون تتّشح باللون الأحمر، أي تنتمي للجبهة الشعبية، عدا أن والدي كان أحد الوجوه البارزة في الحزب.
يذكر من عاصروه في ذلك الوقت أنه كان مثالاً للمناضل الكبير الذي لا يستكثر على نفسه الأعمال الصغيرة، ففي إحدى المرات وصلت له مناشير إعلان الإضراب وأصرّ في اليوم التالي قبل موعد فرض حظر التجوال على البلدة بحوالي نصف ساعة على اختراق الحظر والنزول بنفسه مع زوجته إلى الشارع مخاطرين بحياتهما لتوزيع هذه المناشير، رغم أن بإمكانه تكليف أحد الشباب بهذه المهمة.
كان معروفا عن والدي قربه من الجيل الشباب وإيمانه بأنه الأجدر بالاهتمام، إضافة الى إصراره الدائم على عدم الانتفاع من الثورة حتى بأبسط الاشياء، ففي تلك الفترة وكنموذج للتواصل والتكافل بين كافة بقاع الوطن، كان أهلنا في الأرض المحتلة 48 يرسلون المساعدات الغذائية للعائلات الفقيرة ولعائلات الشهداء. وقد خصصت والدتي حينها غرفةً في منزلنا في بيت حانون لتخزين هذه المواد عند وصولها.
وبالمقابل، كان أبي ورفاقه يستخدمون سياراتهم لإيصال المساعدات للجهات المحتاجة، رافضين أن تمتد أيديهم إلى هذه المساعدات إلى الحد الذي دفع والدي للاعتراض عندما طلبت منه والدتي "علبة سمنة من غرفة التخزين" فأجابها بكل حزم "إنتي مش محتاجة".
في الانتفاضة الأولى، أعيد اعتقاله أربع مرات ليقضي في كل مرة حكماً ادارياً لستة اشهر فيصبح مجموع الأشهر كلها 48 شهراً من السجن الإداري. ولدتُ أثناء محكوميته الإدارية الأخيرة، وأرسلت حينها والدتي صورتي له، ولم تكن أنفاسي قد عطّرت وجه الحياه إلا منذ 14 يوما، حتى أخذ يتأملها طويلا ليكتشف بذلك من شدة تأملاته أدق التفاصيل التي أتشاركها معه أو التي أتشاركها مع أمي.
لم يكف والدي يوماً عن الانتماء لفلسطين، إلى أن خطفه الموت في عام 2009 إثر اصابته بمرض خطير في الرئة، مردداً حتى آخر فترة من حياته "إن كان السجن لم يهزمني، فكيف للمرض أن يهزمني؟!"
مما كتب من رسائل:
لزوجته:
"نحن أصحاب المبادئ والأخلاقيات البروليتارية علينا أن نتجمل ونعمل للجميع وليس للأنفس فقط، وفي الوقت ذاته نتحسس مشاعرهم وما يغضبهم نبتعد عنه .. نتحاشاه ونعالج مشاكلهم وإلا فلا يحق لنا قيادة هؤلاء البسطاء، فالجماهير تعلمنا ونعلمها ليس على صعيد الفن الثوري فحسب بل على صعيد مشاعرهم الذاتية أيضاً، لأن الانسان غير المدرك لبعض الخصائص التي تعكر مزاج الناس كافة لا يستطيع حتى قيادة نفسه، وسيجد ذاته أسيراً لمواقف رجعية بالية .. إنني أرى فيكِ الإنسانة القادرة بالفعل لا بالقول على فهم هذا الواقع .. التعامل معه بمنطق علمي سليم ولا شيء غيرك .. تقدمي للأمام والمستقبل لشعبنا ولك".
سعيد 3/3/1989
الى أحد رفاقه المطلوبين وهو في الأسر:
الرفيق المقدام:
"شاهدتك وأنت صبيٌّ وشابٌ يافعٌ بالعطاء، تجسد صورة رائعة من الصمود والاختفاء والعمل. أعلم كم يكون هذا الظرف صعبا ومؤلماً، لكنك سوف تشعر بالانبعاث. عندما تنتصر وستنتصر يا رفيقي علينا أن نواصل الكفاح والنضال حتى نتحول لقوة أولى ونمهد الطريق لرفاقنا الكادحين ولشعبنا .. لذلك حافظ على نفسك واستمر، وحتما سنلتقي.. الجميع يهديك السلام والتحية .. ولك مني أغلى تحياتي الرفاقية وللأمام."
رفيقك
ابو العبد
من الرفيق أحمد سعدات إلى أمجاد شبات
"سررت جدا برسالتك دون أن أعرف هوية المرسل. عند الخاتمة قرأت الاسم، حينها أدركت أكثر أن هذا العمق ليس مفصولا عن جذوره ، وعادت بي السنون لتجمعني مع والدك الذي توحدنا معا في فترة أعتز بها وأفخر بمعرفته وأقدره وأحترمه وأتذكر حيويته وذكاءه وروحه الاجتماعية المرحة وثباته المعنوي ... حينها قفزت إلى رأسي العبارة الشعبية "فرخ البط عوام" فالاسم على المسمى".









